إذا كان التاريخ انتهى بالنسبة لفوكوياما باعتباره وصل إلى غايته المتمثّلة في الحرية من خلال الليبرالية، فإن التاريخ بالنسبة لمفكرين آخرين سيفتح صفحات جديدة باعتبار أن الصراع لا يزال مستمرا وبأشكال مختلفة. فوكوياما كما هو مشهور مؤرخ هيجلي، تقوم أطروحته على أن التاريخ البشري هو تعبير عن الصراع من أجل الوصول للحرية، وفي حال الوصول إلى الحرية فإن الصراع ينتهي وينتهي معه التاريخ، لا بمعنى نهاية الإنسان بل بمعنى حضور الإنسان الأخير، الإنسـان المتشابه مع أفراد جنسـه.
إلا أن مفكرين هيجليين آخرين أيضا يرون أن الصراع، وهو هنا صراع الطبقات، لا يزال حـاضرا بل على أشـده ما يعني أن التاريخ، باعتباره صراعا، هو في أوجه مع تـزايـد التباعد بين طبقة الأثرياء وطبقات الفقراء.
  كلا الموقفين ينطلقان من فكرة رئيسية وهي أن التاريخ هو عبارة عن حركة الإنسان من أجل الحرية.
يمكن اعتبار تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية تلخيصا للتاريخ البشري في عصوره الحديثة على الأقل. ففي البداية تشكّل التاريخ الأمريكي على المبادئ الأوروبية في القرن السادس عشر، حيث الإقطاع والعبودية والتمييز ضد المـرأة وسـيطرة رجـال الدين وغياب الديموقراطية.
بعد مرحلة التأسيس هذه انطلقت عملية سريعة في اتجاه الحرية، فأصبحت عناوين هذا التاريخ: السود والرق، المهاجـرون وحق المسـاواة، الهنود الحمر وحقهم في أراضـيهم، والتمييز العـرقي في التعليم، وحـق المرأة في التصـويت، وحق كل الأعراق في الانتخاب، وحياد الدولة وعدم تدخلها في معتقدات الناس، وحرية التعبير والاعتقاد والاحتجاج والنشر. وحتى اليوم، وكما يرى مؤرخو اليسار غالبا، لا تزال طبقات المجتمع الفقيرة تمثل غالبية المجتمع وتحتاج للمزيد من الوعي للتحرك في اتجاه تحرير نفسها.
السؤال الذي أريد طرحه هنا: هل حركة التاريخ هذه هي حركة التاريخ الإنسـاني أم حـركة التاريخ الأوروبي تحـديدا؟ بمعنى هل نعثر على الحـرية باعتبارهـا أيقونة التاريخ في سياقات ثقافية أخرى؟ الأكيد هو أن أغلبية دول العالم من مختلف الثقافـات تستخدم الأدوات التنظيمية الغـربية للحـياة العامـة.
أي إن أغلب هذه الدول تستخدم النظام الديموقراطي في تنظيم السلطة والمشاركة الشعبية. بعض الشعوب يستخدم النظام الديموقراطي بشكل حقيقي وبعض آخر يجعله مجرد غطاء للاستبداد وأنظمة الحكم القديمة.
السؤال هنا: هل إن هذه التنظيمات كفيلة بتنظيم حركة الإنسان إلى الحرية، كما يرى فوكوياما مجددا، أم إن هذه الأنظمة معطوبة في كثير من الأحيان، وإن منطق الصراع هو القادم؟
كما يرى أستاذ فوكوياما هنتنجتون أن هناك عدة مسارات اليوم تتحرك فيها مجموعات بشرية هائلة، هذه المسارات متعارضة ومتضاربة وتنذر بأخطار مستقبلية.
تغيب عن هذه المسارات فكرة الحرية بالمعنى الغربي، أي إننا اليوم لدينا مجموعات بشرية هـائلة جدا لا تزال جاهزة ومستعدة لدخول حروب دينية والخضوع للدكتاتور الأوحد، مجموعات بشرية هائلة لا تزال تعتقد أن العبودية جزء من الطبيعة البشرية وأن المرأة أقل درجة من الرجل. بل إن ثمة مجموعات بشرية هائلة لا تزال ترى العالم كما في العصور الوسطى.
 في هذه المسارات تغيب الحرية باعتبارها قائدة للحركة الاجتماعية والسياسية. ويمكن القول إن غياب الحرية هنا يعني احتمالات مفتوحة بعضها واضح الخطر في حركات التطرف والعنف، وبعضها كامن لا يعرف توجهه بدقة. لا يعني هذا التحليل أن التنظيمات الغربية اليوم في حالة كمالها. من المعلوم أن هذه الأنظمة تواجه مشاكل حقيقية اليوم خصوصا في السياقات الاقتصادية، لكن المهم هنا هو أن المجتمع الإنساني في حالة خطر إذا لم تتحقق فيه مبادئ الحرية والمساواة. لأن هذين المبدأين هما الكفيلان بتحقيق أقل قدر من المشاكل والأخطار. سؤالنا اليوم: هل هذا الموضوع حاضر بقوة في المجتمعات البشرية؟ أي هل الحرية المتضمنة للمساواة موضوع للتفكير؟
شخصيا لا أعتقد أن الإجابة مريحة على الأقل في السياق العـربي بمجمله، إذ تغيب الحـرية عن الحضور باعتبارها دافعا ومحركا للمجتمع والأفراد، ما يعني أن الطريق مفتوح لحركة باتجاه مزيد من الاستبداد والانغلاق، خصوصا إذا أدركنا أن المنطقة مقبلة على تغييرات كـبيرة. فالتركيبة السـكانية العربية تركيبة فتيّة والقنوات التقليدية تضيق يوما بعد يوم بحركتها بل تجعلها في حالة اختناق مع مسـتويات مرتفعة مـن الفقر والأمية وانسـداد الأفـق.