قبل ثلاثين سنة كانت المياه الجوفية الزلال تتدفق نوافير من فوهات الآبار الارتوازية بارتفاع عدة أمتار فوق سطح الأرض من مستودعاتها الطبيعية التي احتضنتها منذ ملايين السنين، وتحولت الرمال الذهبية إلى دوائر سندسية تُمطرها الرشاشات المحورية التي تستمد الماء من مضخات ألمانية وسويدية عملاقة تكفَّل النفط بتمويل شرائها وتغذيتها بالوقود الذي يُباع على المزارعين بسعر رمزي.
   هذا التسلط النفطي على الماء تسبب في النضوب التدريجي لتلك المستودعات التاريخية إلى أن غارت إلى مسافات بعيدة أصبحت معها تكاليف الزراعة الآن تفوق تكاليف الوقود المستهلك لاستخراج الماء لو كان يباع على المزارعين بالسعر الدولي. ذلك الماء الذي لا يقدر بثمن ربما لم يكن الضحية الوحيدة للنفط، فكنوز المعادن النفيسة وغير النفيسة والثروات الطبيعية الأخرى التي أودعها الله في أرض الجزيرة قد تكون ضحية أخرى.
  قبل اثنتي عشرة سنة تم تأسيس شركة التعدين العربية السعودية (معادن) برأسمال قدره أربعة مليارات ريال تكفل النفط بتوفيرها لتحل الشركة محل قطاع التعدين في مؤسسة بترومين. ومنذ إنشائها كانت تُعالج ما يقارب المليون طن سنوياً من خامات الذهب والفضة، تتوزع على خمسة مناجم بعضها كان معروفاً ومنتجاً منذ عصر الجاهلية. ثم خُصِّصت الشركة جزئياً قبل سنتين وأصبحت تنشر بياناتها المالية، التي كشفت أن الشركة لم تكن تحقق أرباحاً بل ربما كانت تتكبد خسائر، الأمر الذي يثير علامات استفهام جدية حول ما إذا كانت مكاسب الوطن من هذه الشركة تفوق خسائره. أما الخسائر فهي استنزاف وتصدير كميات هائلة من المعادن النفيسة التي كانت الأرض تدخرها منذ الأزل، وتلويث البيئة في المناطق القريبة من تلك المناجم. وأما المكاسب فإنني أعترف بوجود صعوبة في الاستدلال عليها.
  ففي حين تنصب أهداف الدول من مشاريع التعدين على توفير العملة الصعبة وإيجاد وظائف للمواطنين، نجد أن شركة معادن وحسب المعلومات الموجودة على موقعها (توظف 800 شخص من جنسيات مختلفة)، وليست المملكة في حاجة للعملة الصعبة الآن إضافة إلى أن تدفق العملة الصعبة للخارج على هيئة رواتب وتكاليف آلات ونحوها قد يعادل العملة الواردة مقابل تصدير منتجاتها. الشركة الآن لديها مشاريع جديدة عملاقة تشمل إنشاء مناجم لاستخراج الفوسفات والألمنيوم. لابد أن الشركة لديها قناعة كافية في أن المكاسب التي سيجنيها الوطن من تلك المشاريع الجديدة، سواء أكانت أرباحاً على المال المستثمر، أو وظائف وأعمال للسعوديين، ستكون أكبر مما سيترتب عليها من استنزاف للخامات المدخرة في الأرض، وإنهاك للبيئة.