الحوار المؤثر يجب أن يعتمد على إخراج الذات من دائرة الاختلاف، والرد على الفكرة ينبغي أن يتجنب الهجوم على شخص قائلها.. هذا ما يعلّمنا إياه القرآن الكريم:(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون)، فالآية الأولى تؤكد على الحيادية مع الخصم من خلال التساوي معه في الهدى والضلال، والآية الثانية تعزو للنفس الخطأ (أجرمنا) وتبرئ الطرف الآخر منه (تعملون) ولم يقل (تجرمون).
آخرما كنا ننتظره من أستاذ جامعي مختص بالشريعة أن يبرّر لعدة شبان محاولتهم دخول منزل الشيخ أحمد الغامدي مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة، بغاية مجالسة نسائه، بناء على ما ذكره الشيخ الغامدي من أنه يحق للمرأة أن تستقبل في بيتها الضيوف حتى لو كان زوجها غائبا ما دامت تلك المخالطة بعيدة عن الخلوة؛ والحق يقال إن السفاهة قد بلغت بهؤلاء الشباب كل مبلغ، ولكنهم ليسوا سوى أداة في يد أمثال ذلك الأستاذ الجامعي الذي برّر فعلتهم الحمقاء بكل ما فيها من أسلوب الشخصنة والتهجم؛ فالأحاديث التي أوردها الشيخ الغامدي موجودة في الصحيحين، وسبق لي أن ذكرتها في مقالاتي عن الاختلاط والخلوة، وهي تلك المقالات التي أثارت ردح المتشددين زمنا طويلا؛ بما يحوي ذلك الردح من شتائم هي سلاح العاجز؛ علماً بأني ذكرت في مقالة سابقة أني ممن حاوروا الأفكار من خلال الكتب الموثوقة، وبعدها نفضت عن عقلي الأفكار القديمة وتبنيّت الجديدة المفيدة، مثلي في ذلك مثل الشيخ الغامدي وغيره.
استشهد الشيخ الغامدي بدخول الرسول عليه الصلاة والسلام على أم سليم وعلى أختها أم حرام بنت ملحان، والتي لم تثبت خؤولة أي منهما – سواء بالقرابة أو بالرضاع – ولأن الرسول الكريم عندما سئل عن تكرار دخوله على أم سليم قال:(أرحمها لأن أخاها قتل معي) ولم يقل هي قريبتي، وكان يقيل في بيتها وتأخذ من عرقه لتخلطه بعطرها، كما روى أنس ابنها خادم رسول الله، ولأن حديث تفلية أم حرام لرأس رسول الله عليه الصلاة والسلام واضح وصحيح، ومن خلاله بشّرها بالشهادة بعد أن سألته عن سبب تبسمه وهو نائم ورأسه في حضنها؛ وإذا كان هذا الحديث يعظُم في نفوس كثيرين، فماذا يقول المتشددون عن حديث أسماء بنت عميس عن النبي عليه الصلاة والسلام حول فضل أصحاب السفينة الذين هاجروا للحبشة ودخول الرجال عليها ليسألوها عنه زرافات ووحدانا؟
كأن استاذ الشريعة ذاك لا يعلم أن الرجال الموثوقين هم الذين يسمح لهم الرجل بالدخول على نسائه، وليس بضعة شباب أحداث السن مغسولي الدماغ، والرجال الأفاضل تتشرف المرأة بخدمتهم بنفسها، وإذا ارتابت المرأة في شرف أحد الرجال في المجلس فيجب أن تعلم زوجها الذي لا يحق له أن يجبرها على الاحتفاء بمن لا يرتاح له قلبها، فلعل في زوجها طيبة زائدة، ولعل لديها حدساً صارخاً لا يتوافر في الرجل مثلما يوجد في المرأة.
في أكثر من لقاء مع الشيخ الغامدي ذكر العنت الذي لاقاه هو وأسرته وأبناؤه بسبب مجاهرته بالحق، وعلى فرض أن ما جاء به لم يكن صحيحاً، فلا يوجد في ديننا ما يبررالاختلاف معه بهذه الطريقة السيئة، والله سبحانه أتاح لإبليس الرجيم الدفاع عن وجهة نظره، والملائكة أبدت رأيها المعارض لخلق آدم واستخلافه في الأرض (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) مع أنها مجبولة على الخضوع لله، وليست كبني البشر الذين منحهم الله العقل ليحاجوا به، وأعطاهم الحرية ليكونوا مختلفين حتى لو كانوا أشراراً، ولا يقام الحد إلا على مفسد في الأرض أو على مرتكب كبيرة مجاهر بها، ولا يحق لأحد الدخول في نوايا أحد أو التجسس عليه، وهو ما كان مأخذ الكثيرين على بعض رجال الهيئة، لذلك فمن حقنا أن نفخر بوجود رجل من الهيئة شجاع محب للحق كالغامدي، ومن واجبنا الدفاع عن أمثاله، لعل الآخرين يقتدون به أو على الأقل تتسع صدورهم للاختلاف وتنفتح أذهانهم للحوار.
لم يشوّه الإسلام مثل الآراء المتطرفة التي تريد إلغاء الآخر وإقصاء المرأة عن المجتمع، حتى باتت قضية شكلية وثانوية جدا، من قضايا المرأة هي المسيطرة على حوار الغرب مع المسلمين هذه الأيام، ألا وهي نقاب المرأة، وفي الحلقة الأخيرة من برنامج الاتجاه المعاكس والتي تعرضت لوضع الجاليات المسلمة في أوروبا، وجدنا مثالا آخر عن شخصنة الحوار والتهجم على ذات المختلف، وهو الأمر الذي لا يوحي بشيء بقدر ما يوحي بعجز الشيخ محسن العواجي مما ألجأه إلى التهجم على لباس السيد ضياء الموسوي مرة وعلى بلده البحرين مرة قائلا إن الموسوي نائحة مستأجرة عن أوروبا.. ليأتِ لنا بعود وليسمعنا شيئا من الموسيقى التي يهتم بها.. وأشار إلى أنه نزع عمامته وغيرها.. وتابع متمنيا له أن يشارك في إصلاح البحرين، مهاجما شباب السعودية الذين يذهبون إليها.. وبزعمه "أحيانا يغدون خماصا ويروحون بطانا وأحيانا يغدون بطانا ويروحون خماصا". وتعليقاً على الفكرة الأخيرة فإن ثمة تقارير أحصت المبالغ الهائلة التي تكسبها البحرين من الشباب السعودي، منهم قلة قليلة يذهبون خماصاً ويعودون بطاناً يا شيخ محسن،  لكن آخرين يذهبون مع زوجاتهم ولا يفعلون شيئاً أكثر من مشاهدة الأفلام السينمائية المحرومين منها هنا.
 ولذلك أختم بهذا السؤال: ألم يئن لنا أن ندرك أنه لا شيء كالأفلام في التأثير، وما ذاك إلا لأنها حوار يستعمل كل أدوات الإقناع بما فيها الصوت والصورة والكلمة والموسيقى التي عاب العواجي على الموسوي الاهتمام بها، وهو بذلك يطبّق المثل: (لم ير في الورد عيباً فقال له: يا أحمر الخدين)؟!