في الميدان التنموي في المملكة لا يكتشف الخلل بوضوح إلا عند حدوث مشكلة، ومن حسنات مشكلة الأمطار في الرياض أنها اضطرت أمين مدينة الرياض إلى الكشف عن تواضع ما صرف على تصريف السيول بالمدينة قياسا على حاجتها الضخمة، والخلل الذي أعنيه ليس بالضرورة ناتجا عن تقصير أو فساد، فخلل ترتيب الأولويات في مدينة ما أو محافظة ما قد يشي بأنه تقصير أو فساد بينما هو بعيد عن ذلك لكنه خلل واضح يراه الناس ولا يجدون له تفسيرا منطقيا، فمثلا عندما تكون مشاريع التشجير نشطة في محافظة -ما- بينما هي في أمس الحاجة إلى مستشفى أو مبان مدرسية أو حتى سفلتة شوارعها ألا يكون هذا مثيرا للانتباه والنقد والاستياء، والشك أيضا.
سبب الخلل في كثير من الأحوال ناتج عن اختلاف ترتيب الأولويات بين الوزارات وبين المناطق، بين الوزراء وبين أمراء ومجالس المناطق، كل وزارة تسعى سنويا إلى وضع المشاريع التي تراها مهمة بالنسبة لمسؤولياتها في ضوء ما يصلها من إداراتها العامة في المناطق بغض النظر عن سلم الأولويات في المنطقة –أي منطقة- مستهدفة بالمشاريع الجديدة سنويا، وسأضرب مثلا آخر غير مثال التشجير أعلاه، فهناك وزارات تبني مباني فخمة ضخمة كمقرات لفروعها في مدن ومحافظات تفتقر للصرف الصحي أو تصريف السيول أو المباني المدرسية أو الصحية –مثلا – وهذه المباني تدخل في مقدمة الأولويات بالنسبة للوزارة المعنية، بينما هي في ذيل قائمة الأولويات بالنسبة للمدينة أو المحافظة، ولو كان الأمر بيد أمير ومجلس المنطقة، أو المحافظ والمجلس المحلي لذهبت تكاليف هذا المبنى أو ذاك لما هو أهم وأولى. ما أريد أن أقوله أن الأمر ينبىء بأن هناك خللا في تركيب الميزانية السنوية، وأعتقد أن هناك حاجة منطقية ملحة إلى تحويلها من ميزانية وزارات أو قطاعات إلى ميزانية مناطق، بحيث تبنى على حاجة المناطق التي تقررها مجالس المناطق تحت إشراف أمرائها، وهي حاجة ستتحدد في ضوء ما تقرره المجالس المحلية للمحافظات، وبذلك يمكن القضاء على خلل الأولويات الواضح الآن، كما يمكن تفعيل دور المجالس المحلية ومجالس المناطق التي لا يلمس أحد لها دورا هاما الآن، بل إن الناس يتساءلون لماذا تجتمع هذه المجالس الآن طالما ليس لها دور لا تنفيذي ولا رقابي، وإنما هو دور إشرافي مشلول أو دور تشريفي لا أكثر. إن تحويل الميزانية من تركيبتها الوزارية أو القطاعية إلى ميزانية مناطق أكثر منطقية وجدوى لمعالجة خلل الأولويات، مع ما يتبع ذلك من إعطاء صلاحيات لأمراء المناطق ومجالسها في تحديد تلك الأولويات والصرف عليها بحيث تصبح جهات تنفيذية فاعلة، وتتحول أجهزة الوزارات الرئيسية إلى جهات إشرافية ورقابية. معالجة المشكلة من جذورها أولى وأجدى من تضييع الزمن والجهد والمال في تهذيب الفروع .