-1- ما من فن رفيع ومؤثر تحوَّل إلى صناعة وطنية، وجزء من الدخل القومي الملحوظ لأمة من الأمم أو لشعب من الشعوب كالسينما. ورغم أن السينما يُنظر إليها من قبل بعض المُتدينين المُتشددين والمُتعصبين بأنها "أم الشرور"، إلا أنها لدى كثير من شعوب العالم ومثقفيه "أم السرور". وهي الفن الأكثر شعبية، وجماهيرية، وانتشاراً في العالم. كما أنها في الوقت ذاته، أكثر الفنون درّاً للمال، والشهرة، والنجومية لدى المشتغلين فيها. وهذا ما نقرأه في كتاب المؤرخ السينمائي الفرنسي الأشهر جورج سادول "تاريخ السينما في العالم"، والذي يذكر فيه نماذج واقعية مما حققته صناعة السينما من ثراء، وأموال طائلة للشركات، والأفراد. واعتُبر ذلك رديفاً للدخل القومي لدى أية أمة، وقناة استثمارية جيدة. وهو ما تحقق في أمريكا التي أصبحت صناعة السينما تُشكّل 5% من الدخل القومي الأمريكي. وهو ما تحقق في مصر أيضاً، حيث أصبحت صناعة السينما، وتهافت العالم العربي على مشاهدة إنتاجها واقتنائه، يُشكل دخلاً قومياً لا يُستهان به في مصر.
-2-
أصبحت السينما في العصر الحديث "أم الفنون". فهي تجمع كل الفنون تقريباً في فن واحد. وهي كذلك من أصعب الفنون وأكثرها علمية، وحرفية، وتقنية. وما تردّي صناعة السينما المصرية في السنوات السابقة، إلا مرده دخول عناصر من جميع مستويات الإنتاج، والإخراج، والتمثيل، لا قِـبلَ لها بهذا الفن السهل العسير(السهل الممتنع). والمؤرخ والناقد السينمائي اللبناني محمد سويد في كتابه (السينما المؤجلة) يؤكد ذلك، عندما يقول بشكل عام، إن السينما "مجال حر ومفتوح لمختلف التجارب الفنية والأدبية، من القصة إلى الشعر، والرواية، والمسرحية، والفن التشكيلي، والموسيقى، والغناء. والسينما فن يستوعب الكثير من المحاولات."
-3-
السينما فنٌ سَبقَ كل الفنون في العصر الحديث، نتيجة لأسباب وعوامل كثيرة، منها:
1- ارتباطها بشكل شديد ومباشر بالتجمعات البشرية. فالسينما فن الجموع وليس الأفراد. وكل مجتمع يخشى من الجموع ومن التجمعات، ومن الإقبال الجماهيري الحاشد، هو ضد السينما، وضد صناعتها. وهو ليس ضد الفيلم السينمائي، ولكنه ضد المكان السينمائي. ضد مكان العرض السينمائي. فمثل هذه المجتمعات تُشاهِد الإنتاج السينمائي في التلفزيون، أو على شاشات خاصة في بيوتها لدى الأثرياء. ويقول جورج سادول في كتابه المذكور، إن بعض هذه المجتمعات قد اشترت مئات النسخ من الأفلام المصرية والأمريكية مطلع النصف الثاني من القرن العشرين. ومن المؤكد أن هذه المئات قد أصبحت الآن بالآلاف. كما أن "الإنترنت" ساعد على انتشار الإنتاج السينمائي في هذه المجتمعات. إذن، فالتشدّد والتعصّب ليس ضد هذه الصناعة في ذاتها، ولكن التشدد والتعصب ضد ما يؤدي إلى التجمع البشري واللقاء العام.
2- ارتباطها بشكل مباشر بالمال والاستثمارات. فبدون المال الغزير والاستثمارات، يصعب تطوير وازدهار هذا الفن. ومن هنا نجحت صناعة السينما الأمريكية، وغزت، وسيطرت على أسواق العالم، نتيجة لضخامة الاستثمارات المالية فيها والمال الكثير الذي يـُنفق على أفلامها. ومن هنا فكَّرت بعض البيوتات المالية الضخمة في بعض دول الخليج بتأسيس شركات للاستثمار في صناعة السينما، ذات الأرباح الضخمة. فالسينما إنتاج الأغنياء، واستهلاك الفقراء.
3- السينما فن جماعي وليست فناً فردياً. كل الفنون والعلوم فردية يقوم بها أفراد وحيدون ومتفردون، ما عدا السينما. فهي من نتاج الجموع، ومن استهلاك كل الجموع كذلك. وهي الفن الذي يجتمع على مشاهدته/ استهلاكه جمع من الناس. فهناك إحصائية تقول إن الأفراد الذين يشاهدون الإنتاج السينمائي وحيدين ومنفردين في العالم لا يتجاوز 5%. في حين أن 95% من مشاهدي الإنتاج السينمائي هم جماعات على شكل عائلات، وأصدقاء، وأقارب، ومن عامة الناس. ومن هنا نشط الاستثمار في بناء وإقامة دور السينما في العالم على أحدث الطرق، وأرفع المستويات. ويقول جورج سادول في كتابه (تاريخ السينما في العالم) عن مصر خاصة إنه لم يكن فيها عام 1908 غير عشرة دور للسينما (خمسة في القاهرة وخمسة في الإسكندرية) ولكن هذا الرقم قفز إلى ثمانين دار عرض في عام 1917، وتوالت القفزات بعد ذلك. وهذا ما حصل في أوروبا، وأمريكا، ودول العالم الأخرى.
4- كثرة المواضيع الحياتية التي تصلح لهذا الفن. فالسينما خلال قرن من الزمان وبداية من القرن العشرين أصبحت ذاكرة الشعوب، وتاريخ الأوطان. وكان المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك، رئيس بلدية مدينة فاس المغربية سابقاً، يقول إذا أردنا أن نعرف تاريخ مصر الحديث فعلينا قراءة روايات نجيب محفوظ. ولكننا نرى أن السينما المصرية قدمت لنا من التاريخ أكثر مما قدمه نجيب محفوظ وكل الروائيين المصريين الآخرين. علماً بأن معظم هذه الروايات قد تحوَّل إلى أفلام سينمائية ناجحة حفرت في العقول وفي الذاكرة المصرية والعربية تاريخ مصر الحديث. فالسينما المصرية ليست كلها خلاعة، ورقص، وغناء ساقط وسفيه. ولكنها أيضاً وقائع، وتاريخ. والشعوب في العالم الآن أدركت هذه الحقيقة، وكذلك الحكومات التي أخذت تدعم صناعة السينما، وتشجع المنتجين على إنتاج أفلام تاريخية، تحفظ تاريخ البلدان. فالفيلم السينمائي حلَّ محلَّ أمهر المؤرخين، وأكثرهم صدقاً. ولم يعد لثقافة الشفاهية مكان. وبدأت الثقافة الورقية، تختفي رويداً رويداً لتحلَّ محلها فنون أكثر قدرة على تصوير، وتسجيل تاريخ الشعوب.
-4-
إن فضل هذا المقال، وما جاء به من آراء، يعود إلى الخبر الصحفي الذي نُشر قبل أيام، ويقول: تنطلق في حي السفارات بالرياض فعاليات مهرجان "الفيلم الأوروبي في الرياض" والذي تنظمه "المفوضية الأوروبية" بالسعودية داخل مجموعة سفارات أوروبية (بلجيكا، إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، هولندا، المملكة المتحدة، إيطاليا، والسويد).
وذكرت صحيفة "الرياض" أن الفعاليات ستستمر حتى 31 من الشهر الحالي (مايو) 2010، وسيعرض خلال أيام المهرجان 13 فيلماً من الأفلام الأوروبية الشهيرة التي حازت جوائز دولية من جهات سينمائية كبيرة. ومن بين أسماء الأفلام: الفيلم الفرنسي HOME، والفيلم الألماني vier minuten، والفيلم الإيطالي PRIVATE للمخرج الإيطالي كوستانزو سافيرير، ويروي الفيلم معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي والوحشية في اجتياح مخيم جنين، والفيلم البريطاني LOOKING FOR ERIC، والفيلم السويدي ZOZO للمخرج يوسف فارس، والذي يتناول حياة صبي يعيش في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية.