قبل عدة أيام رحل المفكر الكبير محمد عابد الجابري. لكن الكبار تظل آثارهم حية أبداً، فهو رحل عن الحياة جسداً، غير أنه بقي فيها - حياً - بفكره وجهوده التي بذلها على مدى نصف قرن تقريباً؛ لم تكن طروحاته الفكرية والأكاديمية عادية أو تقليدية أبداً، إذ مثّلت هزة لنواة الثقافة العربية المعاصرة، كونها معتمدة على الفلسفة. والفلسفة كما نعلم مجال خصب ومهم جداً، وإنْ كانت صورتها في عالمنا العربي والإسلامي أشبه برجسٍ من عمل الشيطان!
ويعتبر الجابري من أهم المفكرين العرب في العصر الحديث، فهو من الذين أثرَوا الساحة الثقافية العربية، وأثّروا فيها بشريحة كبيرة من المثقفين العرب المتلهفين للأخذ بسبل النهوض والتنوير؛ فجاء اهتمامهم بمثل أطروحات الجابري الفكرية التي تعتبر شبه جديدة، كونها تمسّ أعماق الثقافة العربية وجذورها. فالجابري، في مجمل نتاجه الفكري العميق، يناقش مسائل دقيقة وعميقة وخطيرة في آن واحد، مكمن خطورتها في أنها كانت محبوسة خلف أبواب المسكوت عنه؛ ولذلك كانت طروحاته محل جدل وحوار ونقاش بين من يتماهون معه فكرياً ويختلفون مع طريقته في التناول وخطه المنهجي؛ ولذلك من الأَوْلى أن تكون القضايا التي تجشمها مثيرة للجدل بين خصومه الفكريين الذين خالفوه تماماً في توجهاته الفكرية ومنهجه الفلسفي.
وفي ثقافتنا العربية، غالباً ما تنتج كل إثارةٍ هجوماً شخصياً أو تكفيراً أو اتهاماً، وهذه دلالة على (النجاح) في زعزعة القناعات. فالتقليديون حين يجتاحهم الخوف من سقوط الأيديولوجيا التي يتبنونها؛ يحاولون فرض قناعاتهم على الجماهير من خلال التكفير والاتهامات وتأليب السياسة والرأي العام لا أكثر، وبالتالي فإن كشف القناع عن حقيقة المسلّمات الواهية التي يؤمنون بها يسبب لهم حالة أشبه بالهستيريا، في محاولة لتحطيم الفكر والرأي الآخر بأي طريقة. والأمثلة على مثل هذه الحالة كثيرة وموجودة في ثقافتنا العربية قديماً وحديثاً.
وهذا الأمر يمكنني أن أعتبره ظاهرة صحية؛ فكأنما هو دليل بداية تعافٍ من مرض الفكر! ولذلك أستطيع القول إن محمد عابد الجابري يمثل رقماً صعبا لا يمكن تجاهله، وسيظل تأثيره الثقافي موجوداً لفترة طويلة، فنتاجه الفكري/الفلسفي ليس مربوطاً بحدث، ولا بزمن معين، إنما هو مرتبط بمناقشات للأعماق والجذور والمكونات الدقيقة لثقافتنا العربية.
وقد بدأ الجابري مشروعه الفكري مبكراً من خلال كتابه "العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي" الصادر عام 1971، غير أن أول بواكير مشروعه الكبير والمؤثر كان "نقد العقل العربي" الصادر عام 1984 من خلال الجزء الأول "تكوين العقل العربي"، الذي كان بداية قوية لمشروع ثقافي مهم . فالاشتغال الفلسفي الحقيقي لا يذهب للسطح والقشر الخارجي، بل يتجه إلى العمق، وهو الذي كرّس له الجابري أهم مراحل حياته على مدى عقود، محاولاً تفكيك وتشريح المكون الثقافي العربي من خلال وضعه تحت مجهر النقد وإعادة القراءة من جديد. وهكذا ما يزال الجابري موجوداً من خلال مشروعه الفكري، فبعض المفكرين العرب (جورج طرابيشي وعلي حرب وغيرهما) يلتقون مع الجابري في العمل الفلسفي بشكل عام، لكنهم عملوا على نقد مشروعه وبذلوا جهداً في ذلك، وهذا أمر إيجابي، لا يمكن أن يكون تقويضاً أو تهميشاً لجهوده، بل بناءٌ عليه ليتم تجاوزه إلى الأفضل. وهكذا بقي مشروع الجابري-حتى الآن - محركاً رئيساً للثقافة العربية المعاصرة، وربما يمتد تأثيره الإيجابي مستقبلاً، بعد أن استطاع أن يؤسس لمفهوم العقل والعقلانية، وأن يزعزع الكثير من المفاهيم والمسلمات التي بنيت خلال عصور ماضية، واستطاع أن يقدم طروحاته وأفكاره بأسلوب مشوق.
ومن ميزات الجابري أنه يكتب باللغة العربية مباشرةً متجاوزاً عجز اللغة العربية المعاصرة التماهي مـع المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، وهي المشكلة التي يشير إليها المفكر الكبير محمد أركون ويبرر بها استخدامه اللغة الأجنبية. وبالمناسبة أركون لا يقل تأثيراً عن الجابري، فكلاهما حملا الهمّ الثقافي العربي واتجها إلى الزاوية الأهم، وهي نقد العقل العربي/الإسـلامي.
وفي خاتمة هذا المقال أشير إلى تعليق الزميل الكاتب شايع الوقيان على وفاة الجابري حيث ذكر أن ما قدمه هو "هبة الجابري للفكر العربي المعاصر"، وهي أهم هبة تعكس الوجود الحقيقي للإنسان.