من أهم المفاهيم التي طرحها المؤرخ الأمريكي (هوارد زنّ) مفهوم "الحروب الجيّدة" أو "الحروب المقدّسة"، وهي عادة الحروب التي تقف وراءها أسباب مقنعة وقويّة، ما يجعل الحرب مبرّرة ومقبولة نتيجة لعلاقة "السبب الجيّد يعني حربا جيدة" أو "السبب المقدّس يعني حربا مقدّسة". هذه العلاقة تحتاج إلى تفكيك بحسب (زنّ). أي إنه يجب فك الارتباط الضروري بين السبب الجيد والحرب الجيدة. فليست الأسباب الحقيقية مبررا للحروب دائما، وليست الأسباب المقنعة بالضرورة تؤدي إلى حروب مقنعة. هذه العلاقة التي اشتغلت على مدار تاريخ طويل وأعمت عيون شعوب وحضارات، من المهم اليوم تفكيكها وإعادة النظر فيها من جديد.
يتجّه (زنّ)، كما هي عادة المفكرين الكبار، إلى ثقافته الخاصة ليُوجه لها نقده المباشر. يتجه (زنّ) لمراجعة ثلاثة من الحروب المقدّسة في التاريخ الأمريكي. تقديس هذه الحروب لا يعني تقديسا دينيا في التاريخ الأمريكي بالضرورة، بقدر ما يعني أن هذه الحروب ظلت خارج إطار النقد والمراجعة ولم يعهد الناس أن يتحدثوا عنها إلا بالمديح والثناء. هذه الحروب هي "حرب الاستقلال، الحرب الأهلية، الحرب العالمية الثانية". كل هذه الحروب، في الوجدان الأمريكي، حروب صالحة وتُعتبر لحظات تأسيسية وفاصلة في التاريخ الأمريكي. لاحظْ هنا أن نقد (زنّ) يصل إلى مساحة حسّاسة جدا وفي عمق الشعور الوطني، ولكن (زنّ) يعتقد أن نقد التاريخ واجب إنساني ووطني، وهو مؤشر على الانتماء والحب الوطني. فإبقاء التاريخ بعيدا عن مشرط النقد أمر في غاية الخطورة باعتبار أن التاريخ يقدم دروسا مستمرة للحاضر، والناس غالبا ما تفكّر تحت تأثير كبير من التاريخ.
حرب الاستقلال الأمريكي أو الثورة الأمريكية (1775-1783)، الحرب التي خرج فيها الأمريكان من قبضة بريطانيا وحصلوا على استقلالهم ودولتهم الخاصة. هذه أهداف عظيمة ونتائج أعظم وكل مواطن أمريكي يدين لها بالفضل. لكن هل كانت الحرب بالشكل الذي حدث ضرورية؟ سؤال (زن) هل كان من الضروري القيام بهذه الحرب لتحقيق الاستقلال؟ ألم يكن من الممكن تصور سيناريو آخر. كندا حصلت على استقلالها بدون حرب! هنا ينطلق (زن) إلى تفسيرات عميقة للحرب، بعيدا عن شعارات الاستقلال، تفسيرات تنطلق من مصالح النخب المسيطرة في ذلك الوقت، وهم الأثرياء والسياسيون الذين أرادوا تحقيق أهداف ومصالح خاصة تحت غطاء حرب الاستقلال. أهم ما يفعله (زنّ) هنا هو كشف غطاء القدسية عن هذا التاريخ. هنا ندخل لحدث تاريخي بشري يخضع لكل الظروف البشرية.
الحرب الجيّدة الثانية هي "الحرب الأهلية الأمريكية 1861-1865" أو حرب تحرير السود. الحرب التي نتج عنها منع الرق في أمريكا وعودة الوحدة الوطنية. نتائج رائعة وتعتبر إحدى النقاط المضيئة في التاريخ الأمريكي. ولكن كل هذا لا يعني عدم مساءلة التاريخ. فالإنسان، كما يرى (زنّ)، يجب أن يسائل كل شيء والتاريخ أحد أهم هذه الأشياء. تاريخي الخاص، الموضوع الأكثر حساسية للنفس. الكل يرغب في أن يكون أسلافه أفضل الناس، ولكن هذا في عالم الأماني وليس في العالم الواقعي. يذهب (زنّ) ليُسائل أسلافه ويُسائل هذه الحرب ويُعيد طرح السؤال المهم: هل كانت الحرب ضرورية، ومن هو الذي استفاد من هذه الحرب. هل السود هم المستفيدون، هل هم العمّال والجنود الصغار الذين مات منهم أكثر من ستمئة ألف جندي؟ هل استفادت هذه الطبقات العامة من المجتمع؟ أم إن الأغنياء والسياسيين والطبقات العليا من المجتمع هي التي حققت الأرباح الكبرى من هذه العملية؟ يقول (زنّ): هناك شعوب كثيرة ألغت الرق من خلال نشاط مدني ووعي ثقافي بحقوق الإنسان وبدون حرب، فلماذا لم نفعل نحن نفس الشيء؟ هنا يضع (زنّ) يده على طرف إضافي في المعادلة له علاقة بالمصالح والمنافع والصراعات السياسية أكثر من أي شيء آخر.
الحرب الثالثة المقدسة في الوجدان الأمريكي هي الحرب العالمية الثانية، الحرب التي هبّت فيها أمريكا لإنقاذ العالم من خطر هتلر الداهم. والنتيجة هزيمة للنازية وانتصار للحرية. يرى (زنّ) أن قتال هتلر أمر لم يكن منه بدّ، ولكن هل كانت الحرب لهذا السبب فقط. يتحدث (زنّ) عن هذه الحرب، وهو أحد الأفراد الذين شاركوا فيها في الميدان. فقد كان متطوّعا في سلاح الجوّ الأمريكي، ويقول إن اسقاط القنابل استمر حتى بعد أن تم حسم المعركة. كان هناك كثير من الأطراف التي استغلت هذه الحرب لبيع الأسلحة واختبارها وتحقيق مصالح خاصة، لا يُفترض بنا أن نتجاهلها ونتغاضى عنها تحت غطاء الحرب الجيّدة. هنا كثير من الناس ماتوا بدون سبب، يجب علينا النظر إليهم فهم أهم من كل الشعارات.
التاريخ هو من أهم مكوّنات الوجدان الفردي والجماعي لأغلب الناس، ونقد التاريخ عملية تحتاج إلى إخلاص للحقيقة وتجاوز للمشاعر العاطفية الغريزية الميّالة باستمرار لتقديس الذات والأسلاف وإبعادهم عن أي نقد.
من السهل جدا لشخص من ثقافة أخرى قراءة عمل شبيه لعمل (زنّ)، بل سيكون العمل مثيرا للإعجاب ويمكن استغلاله في العداء الثقافي للغرب، لكن كل هذا هامش وهروب عن المتن الذي هو نقد الذات وكشف التاريخ الشخصي وكشف غطاء الشعارات التي لا تزال تعيش تحته كثير من الثقافات والشعوب. لا يزال قتل البشر مبررا وبسيطا جدا، بشرط وضعه تحت شعار مقدس معيّن. لا يعلم كثيرون أن تحت هذا الشـعار المقدس أطماعا بشرية وأهدافا سياسية وحبا للاستبداد والسيطرة. من المهم اليوم الكشف عمّا تحت هذه الأغطية، لأنه باختصار يقبع تحتها كثير من الأرواح الإنسانية التي أزهقت بأرخص الأثمان وغابت عن الصورة بسرعة. من المهم إعادة الإنسان للصورة من جديد.