أتأمل كثيراً في أحوال المدن "الحية" وأزداد قناعة بأن شرط حيوية المدن أن تكون الثقافة من أهم أولوياتها. عشاق نيويورك، على سبيل المثال، يعدونها عاصمة العواصم. فهي عاصمة للأعمال وللفنون والإعلام والعلوم. لكن علامتها الفارقة تبقى في مشهدها الثقافي من مسرح ومكتبات وسينما ومعارض فنية ومجلات أدبية وصحافة حية وشوارع مليئة بكل أشكال الفنون من كل بقاع الكون. إنها مدينة يقصدها الطامع في الثراء مثلما يقصدها الطامح في التألق والإبداع والنجومية. هكذا هي المدن الحية: منظومة شاملة يتكامل فيها الثقافي مع السياسي مع الاقتصادي مع الاجتماعي. لا يكفي أن تكون مدينة عملاقة مثل نيويورك واحدة من أهم عواصم المال والأعمال في العالم. ولهذا يقصدها الفنانون من كل أرجاء الكون ويقصدها التجار والسواح وأبرز الطلاب والباحثين. يستوطنها المفكر والتاجر، الناشط والفنان. تألق فيها أكاديمي مثل إدوارد سعيد مثلما لمع فيها كوميدي مثل ديفيد لترمان وآلاف من نماذج التفوق في أكثر من مجال. وتبقى الثقافة هي وقود توهج المدن وتألقها وتفوقها. ليس فقط لأنها تصنع البيئة الملائمة للإبداع ولكن لأنها أيضا تغري المبدع المبتدئ بالجرأة وبالمغامرة في دروب الإبداع المختلف. في نيويورك قبل أشهر، انتهيت من غداء عمل مع زملاء قدامى من الإيه بي سي نيوز لأنطلق نحو مكتبة نيويورك العامة لإدارة جلسة حوارية حول ترجمة الرواية ودورها في فتح نوافذ من التواصل (والفهم) بين الشرق والغرب. كان من بين المشاركين في تلك الجلسة الروائية السعودية رجاء عالم والكاتب - المترجم - بيتر ثرو الذي ترجم أهم أعمال الراحل عبدالرحمن منيف، مدن الملح، إلى الإنجليزية. كان من بين الحضور الكثيف المفكر والأكاديمي وطالبة الأدب وأرملة إدوارد سعيد. ومثلما ازدحم شارع البرادواي بعشاق المسرح، كان الـ"فيفث آفنيو" يكتظ بالمتسوقين، من كل أنحاء العالم، يتجولون في الشارع الشهير الذي يضم أغلى الماركات العالمية وأشهرها. أغادر المكتبة بعد حوار ثري وتفاعل ذكي بين الحضور ومتحدثي الجلسة إلى عشاء فاخر في مطعم إيطالي حقيقي مع ثلة من أصدقاء الدراسة القدامى. عشرة أيام في نيويورك تغذيك بطاقة إبداعية ضرورية تفتقدها كلما غادرت مكاناً مليئا بالحياة والحيوية. إنها مدينة يبدع فيها الكاتب وينجح فيها رجل الأعمال ويتألق فيها الإعلامي ويحقق فيها المتطلع للنجاح أحلامه وآماله. وتلك صورة يمكن أن تراها، بأشكال متنوعة، في مدن حية أخـرى مثل لندن وباريس وميونخ. والسؤال هنا: لماذا؟ لماذا تتألق مدينة مثل نيويورك في استنهاض واستقطاب تلك الطاقات الإبداعية الإنسانية وتفشل مدن أخرى؟ إنها البنية الثقافية التحتية التي تهيئ للإنسان مناخا حراً من التفكير الإبداعي الخلاق ومن الجرأة على التجريب وعلى النهوض من بعد تجربة فشل لمحاولة الإنجاز والنجاح من جديد. في المدن الحية، يكون المثقف نجماً من نجوم المجتمع بل يكون أحياناً أكثر وجاهة وحضوراً من رجل الأعمال الثري. في تلك المدن الحية، تضفي الثقافة – بكل أشكالها – على المدينة وجهاً إنسانياً أساسياً في تكوين المدينة وشكلها وحراكها. تكون الثقافة روحها ووهجها. تذهب إلى المقاهي فترى العشرات من حولك تقرأ أو تتحاور في قضايا إنسانية فكرية ثقافية متنوعة. ترى الحائز على جائزة نوبل على طاولته يحتسي قهوته وفي يده كتاب أو مجلة رصينة مثله مثل جاره في الطاولة المقابلة أو مثل شاب صغير يستعد للانطلاق في عالم الإبداع والتفوق. المدن مثل البشر، تصاب بالصدأ والعجز إن تركت جانبها المادي يطغى على جوهرها الإنساني. والثقافة هي وقود التجدد والتفاؤل في المدن كما عند البشر. ولهذا يخطئ من يظن أن البنى التحتية للمدن هي فقط في الجانب العمراني البحت (على أهميته وضرورته) من غير حساب لحراك المجتمع الثقافي الذي يتطلب كثيراً من التخطيط والتجهيزات كي تنشأ "بيئة" ثقافية تنتشر بسببها المكتبات والمقاهي الثقافية والمسارح ومعارض الفنون ودور السينما. وهي أيضاً في المشاريع التي توفر للمثقف في مدينته حياة كريمة تساعده على قضاء وقت أطول للإنتاج والإبداع الثقافي بدلاً من "التشرد" بحثاً عن مصادر إضافية للدخل من أجل الإيفاء بالالتزامات المادية المنهكة التي تتفاقم يومياً على رؤوس سكان كثير من مدننا العربية حالياً. سبق أن سألت: هل لا بد للمثقف العربي أن يتحول أحياناً إلى وسيط عقاري أو "مهرج" في مجالس الأثرياء بحثاً عن مداخيل إضافية في مواجهة هذا الهوس بالاستهلاك وبالماديات والشكليات التي تحيط به من كل اتجاه؟ في المدن الحية، يعيش المثقف كريماً ووجيهاً في حيه وعند دائرته. في تلك المدن توجد خيارات كثيرة تضمن الحد الأدنى من الحياة اللائقة الكريمة المحترمة فيتفرغ المبدع لإبداعه ويحقق الطامع في الثراء حلمه! في تلك المدن تكون "الثقافة" على رأس الأولويات، مع الأمن والاقتصاد، فتصبح الفعاليات الثقافية في أول قائمة المشاريع الجديدة وتقر الأنظمة الحازمة لحفظ حقوق المؤلف ودعم مشاريعه الثقافية ويحتفى به في المناسبات والاحتفالات الكبرى. تلك هي "الروح" التي تكسب المكان هويته ووهجه. والثقافة الحقيقية هي تلك النابعة من المكان نفسه، تعكس كل تفاصيل المكان وحراك إنسانه وقضاياه وهمومه واهتماماته. ولهذا كان وما زال الحلم أن يجد المثقف العربي في موطنه، مدينته أو قريته، تلك "البيئة" التي تريحه من عناء السفر و"الاغتراب" فتوفر له الحد الأدنى من شروط الإبداع والإنتاج الثقافي!