دُعيتُ يوما إلى مجلس تحدث صاحبه عن الصالحات والذنوب، فأشاد بذكر الصلاة، ثم كرر كل أنواع الصلوات بما فيها النوافل، وأنا أسمع وأؤمّن، ثم فاجأته بسؤال عن مفهوم الذنب والمعصية حين قلت له : ما رأيك في الكسل أليس ذنبا؟ ثم بناء المؤسسات العلمية أليست من الصالحات؟
أذكرُ جيدا من كتاب " في ظلال القرآن " أن صاحبها وقف مليا أمام حزمة من الأمور الموجودة في " سورة البقرة "، وهي أطول سورة في القرآن، فقال أريد من القراء أن يقولوا لي كيف أربط بين كل هذه الأمور الموجودة في السورة بحزمة واحدة، فهناك كمّ هائل من التشريعات، وفيها أطول آية عن التداين، وأعظم آية هي الكرسي والعرش، وأحكام في الحج والطلاق والأهلة والصيام والحيض والجماع والقتال والنسخ والتثبيت والجهاد والدفاع والنفقة والنذر، والصلاة إلى الكعبة بعد نسخ بيت المقدس، وإعلان الحرب على الربا، وقصصا رائعة عن طالوت وجالوت، وسحر هاروت وماروت، وخلق آدم في حفل عامر بشهود الملائكة، وبناء البيت على يد إبراهيم وإسماعيل، وقصة إبراهيم عن تجاربه مع الموت والجبابرة، وذلك الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فيميته الله ثم يبعثه بعد مائة سنة، لينظر إلى حماره وطعامه لم يتسنه؟ وقصص مطولة عن بني إسرائيل، في حشد عرمرم من 286 آية، تجعلها أطول سورة في القرآن، وتحتاج إلى 15 دقيقة للتسميع؛ فهي تصل إلى حوالي جزئين ونصف الجزء في خمسين صفحة، وتنتهي باستعراض أهم مشاكل الزلل عند الإنسان، من الخطأ والنسيان وحمل ما لاطاقة به، لتختم بدعاء خاشع بالرحمة والغفران والعفو والنصر.
قال صاحب " الظلال " بعد ستة أشهر من عرضه السؤال : لقد فتح الله علي؛ إنها حزمة العبادة؛ سواء كانت صلاة أو صياما، حجا أو جهادا، متعة أو نكاحا. وهذا يوصلنا إلى فتح بابين متقابلين لمفهوم المعصية والعبادة..
وما دفعني لكتابة هذه الكلمات المقابلة التي أجرتها معي " قناة دليل " في جدة في أبريل من عام 2010م، في محاولة فهم بركان آيسلندا؟ هل هو عقوبة من الله لقوم مذنبين؟ وماهي حكمة حدوث الزلازل والمصائب عموما؟ وكيف نفهم آية الله في مثل هذه الأمور.
ووجهة نظري أنني حاولتُ تعميم مفهوم المعصية، فالكون يقوم على خمس حقائق؛ من المادة والطاقة والزمان والمكان والقوانين، والطاقة خمس؛ من قوى النواة الضعيفة والقوية والجاذبية والكهرباء والمغناطيس، والأخيرتين دمجهما " مكسويل " في قانون أو طاقة واحدة؛ هي الكهرطيسية (الكهربائية ـ المغناطيسية)، وقد حاول " ستيفن هوكينج " البريطاني و " آينشتاين " دمج قوى الكون كلها في قانون واحد فعجزا، وهو ما تحاوله كل من النسبية وميكانيكا الكم اليوم، وهما طرفا السكة التي يمشي عليها قطار الفيزياء الحديثة.
والقوانين هي التي تحدّث عنها القرآن بكلمة سنة الله، ووصفها بأمرين أنها لاتتبدل ولا تتحول، فلا يرفع قانون قط من مكانه، بل هو ماض في سبيله، ولا يغير طبيعته أو يحول مجراه بل يسري في قناته الطبيعية.
ومن اللافت للنظر أن القرآن وهو يتحدث عن القوانين، كان يؤكد على مفهوم القانون النفسي ـ الاجتماعي، وليس الفيزيائي الكيماوي؟
تأمـّل قوله تعالى؛ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لايلبثون خلافك إلا قليلا .. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا.. فالحديث هنا عن صراع اجتماعي وأين ينتهي، وليس عن تمدد المعادن بالحرارة، وطبقات الأرض التكتونية، أو تركيب الكود الوراثي في البيولوجيا.. فهذه هي الفلسفة العظمى؛ قدرة تطويع الأفكار الكبيرة بكلمات قليلة واضحة، وهو ماقال عنه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي إنها كانت أيام نهضة الفكر اليوناني وظيفة السوفسطائيين في تبسيط العلوم للجماهير، خلاف السمعة السيئة التي قيلت في حقهم، أنهم يقلبون الحقائق بالكلمات، وهو مرض معروف.
وهذه المهمة أي تبسيط العلوم من جهة، وشحنها بروح القرآن والإيمان هي التي ندبتُ نفسي لها منذ أربعين سنة، من أجل نهضة العالم الإسلامي.
إن مفهوم المعصية والذنب والإثم، يتم الدخول إليها ليس من خلال الكلمات كما أراد محمد الشحرور الشامي ، اللعب بالألفاظ، فتغيب الحقائق تحت غبار الكلمات وضبابها، بل الدخول إلى الواقع، فالوضوح هو من مفصلية الكلمات في واقع الحياة وليس اللعب بالكلمة.
إذا كان الكون الذي نعيش فيه كما وصفه " هوكينج " يخضع لقانون الله الذي لايتبدل ولا يتحول، فإن مخالفة القانون هي المعصية الكبرى حين يتم ارتكابها عن عمد، وهي أخفّ حين يتم ارتكابها غفلة بالنسيان . ولذا جاء في آخر سورة البقرة عرض لهذين المرضين الخطأ والنسيان. ولكن الغفلة عن قوانين الكون لاتعني أن الكون غافل عنا، فإذا لسعت النار يدا ممتدة غافلة حرقتها فبصمت آثارها على الجلد بقية الحياة، وإذا حمل أحدنا بيده قدح ماء فلم ترتج يده وترجف وشربه فهو يطيع قانون الله، وإذا لم يلتزم بقوانين الله في رفع القدح فسقط فانكسر ارتكب معصية مخالفة قانون الله فجاءته العقوبة في صورة من الصور.
وينطبق هذا على القتل والزنا والفاحشة والخنا ومخالفات المرور، وكل المخالفات معصية تقود إلى كارثة، بمخالفة سنة الله في خلقه؛ الزنا بالمرض، والكحول بتشمع الكبد، والاستبداد بالانهيار الاجتماعي، وانفجار السدود بشقوق الإهمال، وانهيار الحضارة بالانتحار الداخلي. كان ذلك في الكتاب مسطورا. وهل نجازي إلا الكفور؟
ووضع هذا القانون عن مفهوم الذنب والمعصية يعمق المعنى تماما، ويرشد الرؤية والمنهج، فما يحصل من زلزال آيسلندا وبركانها ليس عقوبة من الله، فهي حركات موجودة في الأرض منذ أن خلق الله الأرض، وحين يموت الناس في القاهرة والأصنام وذمار وبامان وأغادير فلعلة في بناء البيوت..
إن اليابانيين اليوم لايرون في الزلازل والبراكين مصيبة، بل نعمة من الله في فهم الكون وتسخيره، ذلك أن فهم آلية عمل السنن يمنح القدرة على تسخيرها، كما ركبوا بيوتهم حاليا على نوابض عملاقة فلا تسقط البنايات، وأمسكوا بالكهرباء وكانت صاعقة فحبسوها في سلك ، فهم يشغلونها في المصاعد والمعاصر، وأمسكوا بأطنان المياه خلف السدود؛ فحولوها إلى طاقة، وركبوا الصوت والصورة على أمواج الكهرطيس؛ فطاروا بها إلى رؤية التلفزيون في لحظات في كل مكان لنقل أي خبر في أي ركن من المعمورة.
من نظر إلى الطاقات بهذه الصورة حقق العبودية الفعلية لله تعالى فهما وعبادة وخشوعا وذكرا للرحمن الرحيم، وليس على صورة المتحدي والجبار الذي فعله الأمريكان والإنجليز؛ فتفجر الشالنجر مع سبعة أرواح وسبعة مليارات دولار، وغرقت التيتانيك في أول رحلة.
إنه ليس شماتة بهم بل " تقعيد " فهم سنن الكون والتعامل معها..
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.. 6 :