لبيتُ دعوةً كريمةً من كرسي صحيفة (الجزيرة) الرائد لإلقاء دورة إعلامية بجامعة القصيم، و ورقة في ناديها الأدبي العتيد. أتيتُ القصيم مُحمّلاً بذكريات عزيزة، وصداقات شتى مع ثلة من مثقفيها وشرعييها، وحداني الأمل أن أرى-كما في زيارتي الأولى قبل سنوات ثماني- باسقات (السكري) الشهيرة تتراقص خضراء، ونسمات (النفوذ) الربيعية تلذع وجنات الزائر الذي استكان وأُسِر لتلك الوجوه الباسمة التي تفتح قلوبها البيضاء حباً وحفاوةً بالضيف، ليتمدد فيها مُطمئنا، وقد أُخذ بذلك الحب الغامر الذي تلمّس صدقه وتلقائيته. بيد أن خيبة الأمل تلبـّستني وأنا لمّا أزل بالطائرة وقد رأيت من شاهق، مدينة بريدة بنية اللون تماما، ووقتما غذذت السير لألحق بالدورة؛ ألفيتُ المدينة شاحبة، وقد صبغ الغبار السيارات والمحلات والطرق، إلا أن هذه الخيبة سرعان ما تبددت في اليوم التالي، وقد انهلّ وابل المطر، وتحولت في سويعات إلى مدينة نابضة بالحياة والأمل . وعاد البريق لهذه المدينة الساكنة في الوجدان، ودبـّت البهجة في الأنفس وأشرق الصفاء . وقمت مباشرة بزيارة فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة، لمعرفتي بفضل فرسان الفضيلة هؤلاء على المجتمع . وكان في استقبالي فضيلة الشيخ إبراهيم الضالع مدير المركز ورفقته الكريمة من منسوبي الهيئة، وأذهلني التطور الإداري الذي هم عليه - وأنا أقوم بجولة في ردهات المبنى- وأطلعني فضيلته على نشاطاتهم في حماية بناتنا من الذئاب البشرية والابتزاز، وما يقومون به من الستر على من تنكـّب الطريق من مراهقينا. تمنيتُ حينها لو أن بعض زملائي الكتاب كانوا معي، لسرّوا والله بكل هاتيك الأعمال الجليلة.
ووقتما اجتمعتُ مع أولئك الأحبة ودار نقاش صريح عن موقف الإعلام منهم، وتصيّده للأخطاء، والغضّ عن كل إنجازاتهم، وعدم اعتراف كتبة الإعلام بأن الهيئة مؤسسة حكومية، يحكمها نظام رسمي يمشون بناء عليه، وبدلا من الهجوم على ما يقومون به ينبغي شكرهم على التزامهم نظام الدولة، وإن كان ثمة إشكال ففي النظام لا في أداء واجباتهم. وافقت الزملاء على أن ثمة قضايا ظـُلموا فيها، غير أن الخطأ من جانبهم وارد، ويجب عليهم أن يـُبادروا بمحاسبة المخطئ كيلا ينسحب على بقية الجهاز . إلا أنني قلتُ بصراحة إن طريقة المواجهة الإعلامية الأخيرة تجاه بعض الصحف الكبرى، طريقة غير مجدية ولا خليقة بقدوات ينظر لهم المجتمع بتقدير ورمزية. وكان من المفترض أن يضربوا مثالاً في الحلم وحسن التصرف، ومنْ نـَصحَ الهيئة بطريقة المواجهة أضرّ بها كثيرا، . وكان على معالي الشيخ الخلوق عبدالعزيز الحمين إعادة النظر في طريقة المواجهة تلك، التي ستعود سلباً على العلاقة بين الإعلام وجهاز الهيئة. كان الأليق بمعاليه التواصل والزيارة، وتبديد كل التهم الظالمة التي طالت جهاز الهيئة، بطريقة أبوية حادبة، توصل العتاب ولا تجرح، لأن الذي يحصل أن كل رئيس تحرير سيـُجيّش مراسليه ومكاتبه وصحفييه للبحث والتنقيب عن أخطاء أفراد الهيئة- كردة فعل بشرية متوقعة- وسيـُشوّش هذا على أداء منسوبي الهيئة الذين عملهم في الأساس هو الميدان وليس مطالعة الصحف يوميا للبحث عن الضحية الجديدة منهم.. أقول هذا وأنا ليس لي ناقة ولا جمل في القضية إلا حبّ واحترام هذا الجهاز وأفراده . وليت معالي الشيخ الحمين قام بنفسه بزيارات لمقار الصحف والالتقاء مع رؤساء التحرير، والتواصل معهم ، لكان هذا أفضل كثيرا من تلك المواجهة الخاسرة التي قد تربح فيها الهيئة معركة ولكنها ستخسر الحرب.
دعوني أعطيكم مثالا ناجحا لتعاون المؤسسات الشرعية والإعلام؛ فقد تعرض القضاة قبل فترة لذات ما تعرض له أفراد الهيئة، وبمبادرة من أخي جمال خاشقجي أثناء مداخلة له في برنامج (البيان التالي) طرح فكرة التواصل والالتقاء بين هيئة الصحفيين ووزارة العدل، . وفعلا تمّ ذلك، وطرح الإعلاميون على الوزارة مطالبهم؛ التي تمثلت في تعيين ناطق رسمي للرجوع إليه لأخذ رأي الوزارة كإجراء مهني وقت النشر، فيما طرح القضاة رؤيتهم تجاه الإعلام، وبلوروا وحلّوا شيئا من إشكالاتهم العالقة. تأملوا أيها السادة؛ هل تتلمسون شيئا من العدائية الإعلامية اليوم تجاه وزارة العدل ومنسوبيها؟..
ها أنا أكرّر الدعوة لرئيس تحرير هذه الصحيفة لتبني لقاء لهيئة الصحفيين مع قيادات الهيئة، فكلنا نعمل لصالح هذا الوطن الساكن في قلوبنا، ونريد الخير له، وقطع الطريق على أولئك الذين يقتاتون على الفتنة وإذكائها بين الفينة والفينة، وإخوتنا في الهيئة يقومون بأعمال جليلة، وهم محل ثقة ولاة الأمر وتقديرهم، ويحظون بالمساندة منهم . فليت هذا يكون حاضرا لدى أحبتنا الإعلاميين، دون أن ننفي الخطأ الوارد حصوله منهم، فهم بشر يخطئون، ودون أن ننكر حق الإعلام في الكشف عن الخطأ وطرحه في صفحاته بطريقة مهنية صحيحة، فهذا دوره الحقيقي كسلطة رابعة، تعين المسؤول على تلمس الخطأ وعلاجه..
في ختام زيارتي، ودّعني أعضاء هيئة الأمر بالمعروف في فرع بريدة بكل الحب، وشعرت بفيض من الارتياح وأنا أتواصل مع فضلاء يتحملون كثيرا من الأذى النفسي وعدم التقدير لأدوارهم . وليت زملائي الإعلاميين والكتـّاب يتواصلون مع أفراد الهيئة في مقارهم ليروا كم هم مميزون في أخلاقياتهم، ومن الحيف والجور نمـْذجة أفراد قلة متعصبين وغير إيجابيين وتعميمهم على جميع أعضاء الهيئة.