الحلاقون اشتهروا بالثرثرة ولغو الكلام، واللغو مع الآثام، ونقل الأخبار واللعب بالشعر والذقن والمساج، وهو فن عريق منذ أيام الفرعون نخاو.
وأذكر من طفولتي منظرا لا أنساه، لدرس وأنا في الابتدائية، عن حلاق كان يقص الشعر ويلعب بالرأس، وهو يروي قصص حروب الحلفاء واليابانيين ودول المحور، وهو يرسم خريطة العالم على رأس زبون، ثم بلغ به الحماس درجة أن هتف وهو يصل إلى ضربة ميناء اللؤلؤ (بيرل هاربر) أن خبط يده بالمقص فوق رأس المسكين. فهذا طرف من قصص الحلاقين..
لكن القصة غير المسلية، هي عندما دخل على العيادة أيمن ذو 34 عاما وهو يروي قصة إصابته بالتهاب الكبد الوبائي من نوع بي! تعجبتُ وقلت له : كيف أصبت بهذه العدوى؟ قال لي :أريد فقط مصيري من هذا المرض؟ قلت : لقد استعمرك المرض مثل الطليان للحبشة. قال : والنهاية؟ قلت : ليتها مثل نهاية موسوليني وابنه الملعون، الذي كان يحرق قرى التعساء ، على ما رواه الفيلسوف راسل، مثل طفل عابث يتسلى بمنظر حرق قرية النمل!
وهو أمر أخبر عنه نبي الرحمة، أن مآل صاحبه النار، كما هي في فلسفة دخول الجنة والنار بتروية عطش كلب على يد مومس من بني إسرائيل فدخلت الجنة، أو تلك التي دخلت النار بحرمان قطة من طعامها!
كذلك فعل المجرم ابن موسوليني، وهو يحرق قرية من خمسة آلاف نسمة من قرى المنكودين من أهل الحبشة، حتى كان مصيره الحبل والمشنقة على يد الأحرار.
تابعتُ الحديث معه عبرة ودرسا لمن يقرأ مقالاتي للانتباه من إصابات الحلاقين. قال لي : في الغالب جاءني المرض بعد حلاقة ذقني، وجرحها على يد حلاق! وما كنت أعرف المرض وإنني مصاب به، حتى أردت التبرع بالدم ففحصوني؛ فقالوا لي أنت حامل هذا الفيروس اللعين.
قصص الحلاقين تعود إلى أيام لويس الرابع عشر، حين رفع رتبتهم وجعلهم جراحي القصر والعصر، بعد معالجة خراج شرجي عنده بنجاح! أي والله! وذلك قبل محاربتهم الشديدة من أطباء ذلك العصر، ثم جرى الاعتراف بمهنة الجراحة عموما؛ فالجراحة كما نرى أصلها حلاقة، وجسمها فن وإبداع، ومهارتها قوة قلب، وتحمل منظر رشرشة الدم، وجرأتها تقترب من مهنة الجزارين.
والبارحة كنت في حفلة مروعة، من شاب طعنه أقرب الناس إليه بسكين، فرشرش الدم منهمرا مثل المذبوح، وأنا شخصيا فوجئت بكمية الدم المتفجرة من الجرح، بكل أسف اكتشفنا أن عصب الذراع مقطوع بجنب الأوعية والعضلات، وأمر العضلات سهل، وترتيق الأوردة مقدور عليه، وإصلاح الشرايين صعب يحتاج وقتا وصبرا وفنا وذوقا وعلما ومهارة، أما الأعصاب فهي التحدي الأعظم، فلو أصلحتها ما انصلحت وترممت في أشهر طويلة وسنين.
مهنة الحلاقة قديمة منذ أيام حمورابي، وهي مخدرة في استسلام الزبون، تحت أياد بارعة في إنتاج الجمال، وصقل الوجه، وتعطير الشعر، صمدت حرفتهم مع تقدم كل آلات الحلاقة، وبقي خطر نقلهم لأمراض خطيرة مثل التهاب الكبد الوبائي، بسبب قلة النظافة، وضعف التعقيم، والجروح على الوجه والعنق والذقن.
وأذكر في يوم في الأردن، حين أخذت إجازتي في ألمانيا، وكرهت دخول بلاد الرفاق وعبثهم بالإنسان، فآويت إلى مكان قريب اجتمعت فيه بعائلتي، وحين حلقت عند الحلاق، تهذبت لحيتي وشاربي، ولكن نبتت حبوب الالتهاب في عنقي كأنها سطح القمر، ولم أعرف السبب، واليوم أعرف السبب جيدا، إن قذارة الشفرة والموسى خلف نقل الالتهاب إلى جسمي، فلا يبدلونها بين زبون لآخر، وكنت محظوظا مع التهاب الجلد ببراكين الغضب، من التهاب بصلات الشعر وغدد العرق، ولكن الذي دخل علي في العيادة، نقل لي خبر إصابته بالتهاب الكبد الوبائي بي (HbsAg) وهو مرض خطير، وله لقاح تلقحنا به في ألمانيا قبل ثلاثين عاما، حين ظهر اللقاح للمرة الأولى، وتمنينا أن يصل الأمر إلى التهاب الكبد من نوع سي (HCV) والأيدز، ولكن لم ينجح الطب في ذلك حتى اليوم.
ما نريد قوله اليوم حقنا للوعي، وتعميما للصحة، وجلاء للهوية، وما يحدث من مصائب من وراء القذارة والقذرين، أن ينتبه الناس للحلاقين وصالوناتهم، فقد انتشروا انتشارا مذهلا، مع عدم الحاجة لهم بوجود آلات الحلاقة الشخصية عند كل فرد، وأحيانا أمرّ في شارع صغير فأرى خمس دور حلاقة، وسر الإقبال والانتشار هو هذا الاسترخاء اللذيذ، حين يسلم أحدنا رأسه وذقنه نصف ساعة من المساج، يستلقي فيها للرقاد، بين يدي رجل يكاد ينومه تنويما مغناطيسيا!
وطبعا، فالحلاقة من الحضارة؛ ففي ألمانيا غيرها في الحبشة ورواندا، والإقبال يزداد على الحلاقين المودرن في فرنسا والبندقية، وحلاقات النساء أمرهن أعجب؛ فتدخل القبيحة لتخرج ملكة جمال، وتخرج مجعدة الشعر مثل غابات يوكوتان، لتنتج شعرا أسبل متموجا للدعاية بغير اللون خاليا من أحراش الشعر!
وأذكر من ألمانيا كيف أتوا بفتاة ليس لها سوى البياض إلى درجة الثلج ببرودة الثلج، ثم اشتغلوا على وجهها ساعتين من الزمن؛ فخرجت مارلين مونرو أو شارون ستون أو الأميرة ديانا..
ولذلك أخبرني جدي بقصة لطيفة عن رجل نصح ابنه قبل الموت، ألا يقترب من الرذيلة قط، وألا يلمس مومسا وداعرا ، فإذا أراد رؤية الفتاة فليرها على الطبيعة عند الصباح بغير الأصباغ والعطر والمكياج، كذلك مع لعب القمار ليرى أبرعهم من المفلسين، كذلك شرب الخمر مع تقدم الليل ليراهم كالخنازير على صدورهم يتقيؤون وعلى أنفسهم يبولون. فلنحذر الحلاقين!! ... غير النظيفين!