ليس من العصي أن تعنى أي مطبوعة بالحياتي والإبداعي والمعرفي. حين تنفصل عن السائد والمكرور والهامشي. وتلغي من معجمها البهرجة وملامسة السطوح. واجتراح الوجدان العام. والغرق في الإكراهات الساخنة. حين تؤمن المطبوعة بوظيفتها ودورها في صياغة الوعي. ودق الأبواب بحثاً عن ذهب المعرفة. ومناجم الإبداع. وفضاءات الكتابة الحية فسوف تصل عبر منظورها وتعالياتها وتجلياتها. وقد تابعت مجلة (الفنون) في سنواتها الفارطة فلمست تطورها المرحلي والتماعاتها وخفوتها أحياناً وحضورها وغيابها وبحثها الدائب عن الجوهري من خلال الموضوعات المفعمة بالإضاءات الفكرية. والحراك الثقافي. وتكريس منطق الهوية. والتراسل مع نواظم المدارك المبدعة. واستحضار ما تجود به الأرض السخية من عادات وتقاليد مغموسة داخل النسيج المجتمعي. واستضافة رموز تتعاطى الشأن الثقافي. وتمارس ركضها الحار في المشهد المعرفي، ولكي توسع مجلة (الفنون) مساحاتها وتدفقاتها فلا بد أن تنعتق من قيدها التسويقي والتوزيعي. وتخرج من حبسها الإرادي. وتنطلق كالحمائم في الفضاء الأبعد. وتباشر دورها ورسالتها. لتشاطر عصرها بالحوار والتواصل والمقاربة. ولتحدد استراتيجيتها الخطابية ومفاهيمها. واختياراتها. وقواعد منطلقاتها. وتوقها الدائم لتحقيق رفاهية ثقافية وفنية. وعبور مواطن القطيعة مع متواليات المنجز في بلادنا. والتماهي مع القضايا الكبرى دون الشعور بالخيبة من عدم تفاعل أهل الدار من المثقفين في أداء استحقاقاتهم تجاه هذه المطبوعة. والهروب المزعج من إنصافها والتعالق معها. إنني أشعر بالغبطة والإحساس بروعة الآتي بما ستمثله (الفنون) من استنارة. وما سترفل فيه من وعي منفتح . وما ستمنحه لنا من طاقات ابتكارية. وقيم جمالية. امتداداً متراكما لتجربتها وتشكلاتها في خمسينيتها الماضية. مع اندفاعتها في خوض مجرى جديد يتسم بالمغامرة والتجريب يضمن لها حيوية أكثر. وصيغة ملامح مترعة بالامتلاء ووعي الذات. إن مجلة (الفنون) مطالبة بأن تصبح صوت الشخوص والأفكار والجدل المثمر والإيجابي. ورفع سقف المكاشفة حول ثقافتنا (الفنية) بما تمثله من أواصر إنسانية ومعيارية وجمالية. وتصعيد تلك الحمولات التاريخية والخصبة والتي تركها أجدادنا كإرث حي لا تزال روحه تسري في حاضرنا صوبَ مستقبلنا مع الالتفات إلى ما ينزع إليه جيل اليوم من تمايز وريادة وانعطاف حضاري. كل هذا لتبدو وجوهنا خضراء كالحقول. وتفاصيلنا مشمسة كالظهيرة. ولنقمع تلك الصور البالية والمهترئة والشرسة والتي تصورنا أحياناً أمة منطفئة إلا من النفط. وبشراً نائماً في المدن المستحمة بالفراغ. علينا أن نهدم ساعة الرمل. ونبعثر تلك الحجارة السامة التي حاول البعض غرسها في لحم ثقافتنا لنبدو كائنات مبهمة. وعيوناً تصيد في الظلام. أو كما عبر عنها بابلو نيرودا (أولئك المدفوعون غريزياً لإطفاء النور).