منّ الله عليّ أن أقضي مع سيدتي الوالدة وزوجتي وأولادي ـ حفظ الله لنا ولكم الأحباب ـ نصف عطلة منتصف الفصل على ضفاف البحر الأحمر، وسط الرحمة والزحمة. ووجدت الإجازة فرصة سانحة لتحرير هذا المقال، ولا سيما أنها كانت حافلة بكثير من الجمل مثل "أنت من زمان وأنا من زمان ولذلك لن نتفاهم" أو "عندما كنت في عمرك كانت حياتي المذاكرة" وغيرهما. الحقيقة تؤكد أن هذه العبارات تـُسيء أكثر مما تنفع، لأن الولد ـ الابن والبنت ـ بعد سماعه لها يهدف وبكل قوة إلى حماية نفسه ضد هذا الحوار، والحقيقة الأخرى أن هذه المقارنة تحمل معنى الدونية والنقد غير الهادف، بل تعتبر معايرة صريحة للولد، وخصوصا أنه لا يتصور أن والديه كانا في مثل سنه ذات يوم.علماء النفس يـُعرّفون صراع الأجيال أنه: التنافر في الذوق والملبس والمأكل والمشرب، مما يصدم أذواق الكبار ويثير دهشتهم وشجبهم واستنكارهم. هذا التماسّ غير المحمود محصور في مجالات معينة (مجالات التعارض) وتتركز غالبا في موضوعين؛ (اختلاف المتطلبات والحاجات) و(الأصدقاء). وحل هذا التضاد يتركز في احترام شخصية الولد، لأنه شديد النرجسية ـ الحساسية ـ لكل ما يسيء إليه. ولعل المراقبة غير المباشرة والتلميح الذكي والقدوة الحسنة وملء الفراغ بالنشاطات السليمة وإشباع الحاجات بالشكل المتسامي خير من الوعظ المستمر الذي لا يجدي، فالثقة إذا انعدمت وانسدت سبل الحوار والتفاهم ستكون النتيجة وخيمة، وسيعمد الولد عندئذ إلى تأكيد ذاته بالشكل السلبي.
الواقع أن العلاقة بين الأجيال علاقة تفاعل وليست علاقة صراع، فالأصل أن الوالدين والأولاد يكنـّون لبعضهم المحبة والاحترام. ومعلوم أنه كلما كانت الأسرة متماسكة أصبحت مؤهلة أكثر لرعاية مطالب أولادها النفسية والاجتماعية، وجديرة بحدوث تفاعل بينها وبينهم ، فتبزغ شخصية الولد لا كنسخة من شخصيات الكبار، بل كنتيجة للتفاعل بين أفكار وقيم واتجاهات الكبار والصغار. التربويون يؤكدون أن القاعدة في التربية تقوم على ركيزتين متوازيتين؛ (الثبات على القيم الفاضلة) و(الحرية في التحرك نحو المستقبل). ومن المشهور أن أسباب تفاعل الأولاد رغبتهم في الاستقلالية وعدم التبعية للكبار والتحرر والسعي نحو الشخصية المستقلة. وأيضا مبالغة الوالدين في التدليل، فعندما لا يجد الولد نفس القدر من الاهتمام خارج المنزل ستتحول مواقفه إلى مواقف عدوانية وسيتحول سلوكه إلى سلوك انسحابي وانطوائي. وأيضا مبالغة الوالدين في السيطرة والضغط، يمنع الولد من فرصة التفكير، ويؤدي إلى ردة فعل قوية منه، وخضوع واستكانة غير محمودة. ويمكن أن يضاف إلى هاتين المبالغتين النبذ والإهمال، اللذين قد يكونان صريحين في صورة الكراهية، أو ضمنيا في عدم الاهتمام بالأولاد.
الأمر الواجب الانتباه إليه هو ألا يقف الآباء والأمهات عند تاريخهم وزمانهم السابق، بل يجب أن يطوروا أنفسهم بما يتلاءم مع الزمن الحالي الذي يعيش فيه أبناؤهم وبناتهم، لأن تطور الوالدين سوف يعكس ما هو أفضل وأنسب لأولادهم خاصة فيما يرتبط بالأفكار والممارسات العقلية بدلا من تلك الأفكار المرتبطة بالسنين السابقة. وسيمنع هذا التطور الاختلافات غير الضرورية القائمة بينهم ، والسلوك المختفي للولد الذي قد يؤدي إلى تفاقم شعوره بالخطأ. لا يمكن أن تتطور علاقة الصداقة والتفاهم والثقة بين الأسرة إذا عاش الوالدان وفقا لأفكار لا يستطيع الأولاد فهمها وقبولها. وأقول للوالدين: كونوا أصدقاء لأولادكم، ولا تجبروهم على أن يكونوا نسختين عنكما، وتـذكروا أن حياتنا المعاصرة تعرف جـيدا ظاهرة التفاعل بين بني البشر، ولا تعترف مطلقا بظاهرة الصراع بين الآدميين.