لم يكن أكثرنا تفاؤلا في إدارة "أسواق العزيزية" يتوقع هذا الانفجار الهائل الكبير في قدرات هذا الشاب وبهذا الزمن القياسي. "عبدالله" الغامدي كان في صيف عام 1996م طالبا في كلية الهندسة في جامعة الملك سعود. أتى ضمن 60 طالبا من مختلف المستويات معظمهم من حملة الثانوية العامة للعمل لدينا في الشركة حسب نظام الوقت الجزئي "Part Time" الذي تم تصميمه بواسطتنا والذي يمنح أجراً مقطوعاً مقابل الساعة. البرنامج كان مخصصاً لملء فراغ الطلبة أثناء العطلة الصيفية من جهة ومن جهة أخرى لتهيئة وزرع ثقافة العمل في أنواع معينة من المهن بين الشباب السعوديين. كنا في وقتها متنبهين إلى أهمية موضوع البطالة حتى قبل أن يصبح شأناً عاماً صدرت لاحقاً من أجله اللوائح الرسمية. الوظائف المتاحة لدينا في تلك العطلة للمبتدئين لم تكن تتعدى "موظف خدمة عملاء" وهذه هي التسمية المطورة إما لـ "معبيء الأكياس" أو "مصفف الخضار والفواكه" أو لمن يقف خلف كاونتر الخبز والكيك أو لمحاسب "كاشير" في أعلى مراتبها. العقبة الأولى كانت تكمن في إقناع الشاب السعودي بالعمل في هذه الوظائف. معظم الشباب لم يتقبلوا الفكرة في بداية عرضها مما اضطرني إلى الاستعانة بابني خالد وكان وقتها في مرحلة الكفاءة المتوسطة. وضعت خالد في وظيفة معبيء أكياس وبعد أن شاهدوه مرتدياً زي الشركة ويعمل قبلوا بالفرص. إن كان ابن المدير يؤدي هذه الوظيفة فما الذي يمنعنا من تأديتها. الشاب الغامدي، موضوعي هنا، والذي لم يكن ضمن المترددين، بدأ العمل في قسم الخضار والفواكه. ارتدى المعطف الأخضر المخصص وبدأ يعمل ويتعلم. لم يترك زبونا إلا وساعده وتحدث إليه. كان شعلة من النشاط والحيوية. أصبح صديقاً للمدير ولمساعديه وتعلم منهم الكثير عن هذه "الصناعة".

اختتم البرنامج بعد انتهاء مدته وبدأت عودة الطلبة إلى صفوف الدراسة. لكن عبدالله وعدد من زملائه استمروا في العمل في المساء. لقد أحبوا المهنة وتفاعلوا معها. تمكنوا من الوفاء بمتطلبات المدرسة أو الجامعة مع قليل من ساعات العمل كل مساء في الشركة. في أوقات متقطعة كنت أتوقف في المركز وأتحدث إلى الشباب وكان يشدني حماسهم وتطور مستوياتهم في العمل. تم نقل عبدالله بعد سنة ونصف إلى وظيفة مساعد مدير خدمات العملاء وارتفع دخله الشهري من 1600 ريال في الشهر إلى 5000 ريال. بعد ذلك بقليل تمكن من إنهاء دراسته الجامعية وحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة. في العام 2000 أي بعد أربع سنوات من التحاقه بالشركة سألت مدير المركز عنه. أين هو وماذا حل به؟ تساءلت عنه لأنني افتقدت حضوره في المحل.

قالوا لي إن عبدالله أصبح أحد الموردين للشركة. لقد افتتح مؤسسة تعنى بتوريد الخضار والفواكه وبعض المنتجات الأخرى المستوردة. طلبت منهم أن يبلغوه عن رغبتي في التحدث إليه. أتاني إلى المكتب وشرح لي قصته بالكامل. كيف بدأ يفكر بالتجارة وكيف أسس مكتب البيع وحوله إلى مؤسسة. سألته عن رقم مبيعاته في العام فقال 20 مليون ريال في السنة موزعة على أكثر من عشر شركات في الرياض. هذا يعني تقريباً مئة ألف ريال شهرياً كصافي دخل بعد خصم المصاريف. وهذا يتجاوز راتب وزراء في الدولة أو رئيس تنفيذي في أي شركة متوسطة إلى كبيرة الحجم رغم أن الشاب في بداياته. وماذا عن شهادة الهندسة؟ أجاب أنه يحتفظ بها في أحد الأدراج لديه. هل لجأت للواسطة في أي مرحلة؟ هل طلبت مساعدة أحد؟ الجواب: لا.




الذي أريد أن أمرره هنا أن بلادنا تزخر بالفرص الواعدة. فرص لا تتكرر في كل وقت. الفرصة التي استفاد منها عبدالله في القطاع الذي اختاره "صدفة" ربما موجود لها مثيلات في كل القطاعات الأخرى. يشتكي الكثيرون من طالبي العمل من الواسطة ويتوقفون عن البحث بعد محاولات خجولة. نعم الواسطة موجودة ولكنها ليست كل شيء. مجال العمل يعتمد على الاختراق. كيف لشاب بنغالي أتى بوظيفة معد للقهوة أن يتحول إلى موظف في إدارة الموارد البشرية مثلاً؟ وهذه حقيقة حدثت مع شخص أعرفه في نفس الشركة. المطلوب من الباحث عن العمل أن يقبل بأي وظيفة متاحة وبأي راتب شهري حتى مع وجود الشهادة الجامعية. يستغل تواجده داخل المنشأة لا ليؤدي الواجب فقط وبتردد وملل بل ليفجر كل طاقاته من خلالها. مهما كان رب العمل منحازاً سيميل في النهاية إلى صالح الأكثر كفاءة وتفانياً وأمانة وإخلاصاً. في القطاع الخاص لا تخضع الترقيات إلى لوائح ديوان الخدمة المدنية بل إلى الكفاءة والعطاء فقط. قد يبدأ الشاب براتب لا يتجاوز الألفي ريال وفي مدة قد لا تتجاوز الخمس سنوات سيجد نفسه مرشحاً لوظيفة راتبها خمسة عشر ألف ريال.

تأملوا هذه الأبيات الجميلة التي فاضت بها موهبة ورؤية الرائع الأمير بدر بن عبدالمحسن عندما قال في واحدة من أجمل قصائده برأيي:

لا تـظن المسافر من يسوق الرحول

مـن وقف دون حلمه عاجزٍ ما رحل

الـليالي خـوات مير منهي البتول؟

والـحوادث عشاير مير وين الفحل؟

نعم يا عبدالله الغامدي وزملاءك ممن ارتقوا في وظيفتهم وممن لم أتمكن من الحديث عنهم في هذا الموضوع، أنتم تنتمون إلى القلة من الفحول الذين لم يفوتوا النيل من "الحوادث" عندما "عشـّرت".