يعتبر إصلاح البنى الفكرية الركيزة الأساسية للإصلاح، ومهما تغيرت حياة الناس من الخارج، فلن تتغير نظرتهم للذات والحياة والعالم مالم يبذل جهدا مساويا على الصعيد الفكري والثقافي، يتناول بمبضع التحليل العلمي النقدي جسد الأيدلوجيا الدينية كاشفا أنواع التزييف والاستلاب المفروضة على الإنسان من خلالها! ولعل جلّ إشكالاتنا تبدأ من تبنينا لتحديثات وآليات معاصرة دون الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه، ولذلك لدينا تحديثات دون حداثة، وإجراءات معطوبة خاوية من الجوهر والمعنى المبنية عليه. فضلا عن أن الطفرة الاقتصادية لم تصاحبها طفرة ثقافية واجتماعية، فتسارع التطور والتحديث في جانب واحد فقط، وبقي الجانب الفكري والثقافي الإجتماعي يرواح مكانه.
ولو نظرنا للتحديثات المتعلقة بالمرأة في مجتمعنا، سنجدها تحديثات مفرغة من جوهرها ومعناها لأنها لم تقم على بنيان فكري متين يفكك الموروث الذي اختلطت فيه الأعراف بالدين، ويعترف بإنسانية المرأة وأهليتها الكاملة، ويحررها من أصفاد الدونية والانتقاص من العقل والقدرات، أو من خندقتها في خانة الفتنة والإغواء أوالعار والشنار! وفيما وصلت المرأة لأعلى الدرجات العلمية والمكانة الثقافية، لا يزال معرفة اسم الأم أوالأخت مدعاة للإحساس بالعار عندما يلوح به فتى في وجه رفيقه بالمدرسة! وعندما فُرض تعليم المرأة قبل حوالي خمسين سنة في المملكة بقرار سياسي دك قلاع الممانعات الاجتماعية، لم تقم جهود فكرية موازية لتحرير المرأة من سطوة الأعراف البالية والتي يتناقض كثير منها مع قيم الدين نفسه! بل ساهمت المناهج نفسها بالتضافر مع الخطاب الاجتماعي في تكريس وضعها وإبقاء الحال على ما هو عليه، فكيف نتوقع أن يحترم فتى أمه وأخته فيما يدرس ما يزعزع قيمتها في داخله، ولا أدري ما الهدف التربوي من تدريس آراء تخالف النصوص التأسيسية في القرآن ومقاصد الشريعة فيما يتعلق بالمرأة؟! وما الحكمة من تدريس نصوص دينية مقتطعة من سياقاتها المختلفة أو أسبابها الخاصة لطلاب وطالبات في مرحلة التكوين، ستساهم في بلبلة وإرباك وعيهم وخلخلة نظرتهم للمرأة كإنسانة حرة لها مثل الذي عليها بالمعروف؟!
دون الاشتغال على البنى الفكرية سنظل نرواح مكاننا، وسيخرج علينا محتسبون لا يستطيعون أن يروا في المرأة إلا جسدا مثيرا للشهوات ومحركا للفتن، حتى لو كانت هذه المرأة سيدة فاضلة تؤدي مهامها الوظيفية التي كلفتها بها الدولة كنائب وزير التربية والتعليم!
دون الإصلاح الفكري والثقافي ستظل أية تحديثات جديدة تخص المرأة تستنفر الوعي الجمعي وتصيب المجتمع بفوبيا تستنهض فيها الهمم للرفض والممانعة، ليحل القرار السياسي المعضلة ويلجم الممانعات ويقوضها!
دون إصلاح الخطاب الثقافي الديني وغربلة مفرادته وفصل الديني عن العرفي، وعدم إعطاء فهم أحادي للدين صفة الحقيقة المطلقة، ستبقى الأحوال على ما هي عليه! وسنعاني من التشدد والتنطع المولدين للتطرف، وسنتلظى في أتون الفهم الشكلاني السطحي للدين، والبعد عن جوهره والقيم الأساسية العظيمة التي جاء ليرسخ لها! دون الالتفات لفقه الواقع والمقاصد الكلية للشريعة، لن نستطيع أن نتقدم قيد أنملة وسنبقى ندور في ذات الدوائر من التخلف!