قبل ما يقارب العقدين، انشقت السماء عن فضاءات لا حدود لها من القنوات التلفزيونية التي صارت تملأ روزنامة "الشاشة"، بحيث لم يعد التلفزيون مقتصراً على القنوات المحلية الرسمية، بل صار في وسع المشاهد في الرياض أو جازان أو عرعر أن يتابع وهو في مجلسه المنزلي نفس الأخبار أو الأفلام أو البرامج التي يراها مشاهد آخر في منزله في نيويورك أو سيدني أو نيروبي، وحينها شاع استخدام مصطلح أن العالم أصبح "قرية واحدة"، تعبيراً عن صغر العالم وتجاوره وانفتاحه، ثم تطور الأمر بعد ذلك فدخلت الوسائط الاتصالية الجديدة مثل الصحف الإلكترونية التي تعطيك الخبر فور وقوعه، وليس في اليوم الآخر كما يحدث في الصحف الورقية، أو قبل نشرة الأخبار التلفزيونية التي استحدثت للمواكبة شريطاً تحت عنوان "عاجل" ليستوعب المستجدات والتحولات الآتية بسرعة. لكن الأمر ذهب إلى المدى الأبعد مع النفوذ الذي بسطه "الفيس بوك" ثم "التويتر"، حيث تم كسر الحدود الجغرافية بين دول العالم، ولم يعد هناك أحقية لمصطلح داخل وخارج، ولم يعد من المناسب استخدام مصطلح "القرية الكونية الواحدة"، فقد تقاربت المسافات بصورة أكبر حتى صار من الأنسب أن نقول إن العالم صار صالونا واحدا بدلاً من قرية واحدة. وقد أفضى هذا التداخل والتقارب الشديد إلى إضعاف السلطات الرئيسية والأصلية التي كانت قائمة فيما سبق. فقد أسهم التويتر والفيس بوك في إضعاف سلطة الحكومات على شعوبها وسلطات علماء الدين على احتواء المريدين وغيرهم ترهيباً وترغيباً، وكذلك الحال مع سلطة العائلة.
لقد أصبح هناك حالات تمرد على الدين والدولة والأسرة، بحيث لا يمكن لتلك السلطات المهيمنة سابقاً أن تفرض سطوتها واحتواء المارقين. ولم يعد بالإمكان ممارسة سلطة الحجب بنفس القوة السابقة. لم يعد يجدي إغلاق الحدود أو المنع من السفر أو منع "الدشوش". صار بإمكانك تسريب أدق الأسرار في ومضة عابرة من أي مكان هامشي لتصل إلى المتابعين في كل العالم قبل أن يرتد إليك طرفك، بل إن السرعة القياسية التي تتطاير فيها هذه التسريبات خلقت بيئة خصبة للأخبار المكذوبة والمنتحلة، وهي بيئة رحبة للإشاعات على نحو لا يسمح لك بتمحيص وتدقيق مصداقية ما يصلك في هذا الصالون الكبير أو المجلس الرحب. وبسبب سرعة التلقي ثم سرعة التداول بين المتلقين دون تدقيق فإنه صار بالإمكان إحداث هزات سريعة وحالات من الخلخلة في المجتمعات التقليدية والمحافظة والتي كان للسلطات الرئيسية فيها سطوه مقدرة.
وانطلاقاً من هذه الاعتبارات السابقة صار المجتمع السعودي المحافظ يتعرض لبعض التشويش الذي طال بعض مسلماته، وهي موجات تأتي على نحو عفوي في جانب وبشكل عمدي في جانب آخر. أي أن هناك حالة من التآمر والاستقصاد لتغيير بعض ثوابت هذا المجتمع. وقد تكون الرغبة مدبرة من أطراف خارجية، لكن الأكيد أن هناك رغبة كامنة في الداخل لدى بعض من يعدون أنفسهم من الناشطين أو الكامنين الذين جاءتهم فرصة الخروج من ربقة السلطات الرئيسية (الدين، الدولة، العائلة)، لكنني أجد أن ما يحدث هو نتيجة طبيعية لهذه التحولات الكونية في أساليب الاتصال التي فتتت الحواجز وكسرت القيود. وأظن أن الأمر سيستغرق وقتاً حتى تنشأ مجموعات تنظيمية جديدة من شأنها المحافظة أو السيطرة نسبياً على بعض السلطات القديمة، لكن بعد أن يتروض المجتمع التقليدي على هذه التحولات، بحيث تنخفض حدة الاندهاش أو الرفض لبعض ما يتم خارج السياق المعتاد. ولعلنا نتلمس مثل ذلك في أمثلة عديدة وقعت مؤخراً. وحتى لو سلمنا بصحة هذه الحوادث، فإنني لا أرى أنها تستحق كل هذا النحيب وكل هذا الحبر المسكوب. فالجنسية مجرد صفة أو عنوان يمكن تغييره بمجرد سحبه. فكما تمنح الجنسية لاعتبارات محددة، فإنه يمكن سحبها لاعتبارات أخرى محددة، لكن حتى دون النظر إلى هذه الاعتبارات فإن الأمور رغم ذلك لا ينبغي أن تخلق كل هذا الضجيج، فإن زاد عدد المسيحيين واحدة وهو خبر مشكوك في صحته!! فإن الإسلام يحتفل يومياً بدخول المئات من المنجذبين إليه، وهو بحسب المراقبين أكثر وأسرع الأديان السماوية نمواً، نسبة لعدد الداخلين فيه.
هناك مثلا خبر آخر عن الفتاة السعودية التي اكتسبت الجنسية الإسرائيلية، والأمر بالطبع لا يعدو كون الفتاة آلاء خليف فلسطينية الأصل وتزوجت من فلسطيني آخر، وأن أخوالها من عرب الداخل أو فلسطينيي 48 الذين يقيمون في مدينة الطيرة في الأرض المحتلة.. والأمر يصبح عادياً حيث عاد الفرع للأصل بمجرد تخلي الفتاة عن جنسيتها السعودية المكتسبة.
إنه زمن الوسائط الجديدة التي أحدثت مثل هذه الفرقعات والتحولات كحادثة كشغري وغيرها من حالات الجرأة على الدين أو غيرها كحوادث الجرأة على الوطن أو التمرد على الأهل، لكن الأمور ستعود بعد زمن إلى شيء من سياقها الطبيعي بعد أن يخفت أثر هذه التحولات ولا يتردد صدى ما يحدث في الصالون العالمي أو المجلس الكبير بمثل ما نسمع الآن.
"والله غالب على أمره ولو كره الكافرون".