ثورة الاتصالات جعلت العالم قرية واحدة، وأتاحت للإنسان معارف الدنيا بضغطة زر، وفتحت للبشرية أبواباً للتطور في كافة مجالات الحياة، لكن في المقابل، فإننا في غمرة الاحتفاء بالتقنية، نسينا أو تناسينا أن ننظر لوجهها الآخر، وجهها القبيح، فكما أنها أتاحت للعلماء والمفكرين وعموم الناس حرية وسهولة التواصل، فقد أتاحت بالدرجة نفسها ذلك للمجرمين والإرهابيين وللطغاة والمستبدين. فقد استخدمت هذه الثورات الرقمية أيضاً في تعزيز الجريمة المنظمة، وفي التحرش بالأطفال، وفي التجسس، وفي نشر الشائعات، وفي شن حملات تشهير بالغة السوء، وحتى في تهديد الأمن الوطني للدول. في مقالي هذا سأختار الحديث عن جزء بسيط من سلبيات هذه التقنية على العامة في مجتمعنا.
في السنوات الأولى لدخول الإنترنت للمجتمعات العربية، عرفنا عددا من الرسائل الإلكترونية التي كان يُعمل لها "فورورد" (إعادة توجيه) بسرعة البرق ما بين صناديق البريد الإلكترونية الشخصية والمجموعات البريدية، والتي كانت تحتوي على كم هائل من المعلومات المغلوطة والرسائل الدعوية غير الموثقة والتي يمتزج فيها الدين بالخرافة أحياناً والتي تذيل بـ"انشر تؤجر" أو "في حالة عدم تمريرك للرسالة ستقع لك مصيبة عظمى" (المشكلة أن هناك من كانوا يصدقون ذلك!). هذه النوعية من الرسائل وهذه الممارسات لا تزال قائمة اليوم ولكن بطرق مختلفة، فقد ظهرت في مواقع أخرى وبصيغ جديدة، فأنت تجدها في الفيسبوك بصيغة: "هل تخجل من أن تضغط لايك (إعجاب) لحذاء النبي صلَى الله عليه وسلم؟" أو عبر تويتر: "طفلة مريضة محتاجة للتبرع بالدم ..إذا لك قلب اعمل ريتويت". والأمر نفسه يتكرر بشكل مضاعف على أجهزة الهواتف المحمولة من خلال الماسينجر الخاص بجهاز "البلاك بيري"، أو برامج التراسل المجانية على بقية الأجهزة.
الإنترنت قبل انتشاره بالصيغة التي نراها اليوم على الأجهزة المحمولة، لم يكن متوافراً للجميع، فظلت التقنية محصورة في فئات بعينها، وهو وضع سيتغير بشكل دراماتيكي مع ظهور الهواتف المحمولة الذكية، والتي ستصبح في يد كل شخص تقريباً. وهكذا فإن فئات كبيرة ممن فاتتهم الموجة الأولى من خزعبلات وطرائف رسائل إعادة التوجيه يشاركون اليوم في الموجة الثانية.
أما الجهل، فأمثلته هذا الكم الهائل من الرسائل الطبية والدينية الخاطئة، فالمعلومات الطبية عن كون تناول هذا الطعام أو ذاك مفيداً أو ضاراً، أو هذا الإعلان عن الاكتشاف الطبي الفعال، أو طرق عجيبة لانتقال الأمراض، ليس لها أي مصدر علمي ولا طبي ولا حتى من موقع على الإنترنت. أما المعلومات الدينية فهناك كم هائل من الأحاديث المتداولة والأدعية والسنن التي الله أعلم بصحتها، فهي جديدة وغريبة وليس لها سند واضح ولا مرجع شرعي معتبر.
أما الشائعات فمن أسخف ما وصلني، عن نوع من الفوط الصحية النسائية التي صنعت في إسرائيل خصيصاً لنا لتصيبنا بالإيدز! مصيبة هذه الرسائل ليس أنها تتهم إسرائيل بمحاولة الإضرار بنا، بل لأن تحقيق الضرر بنا بهذه الطريقة مستحيل نظرياً وعلمياً وعملياً، وكل ما تتسبب به هو نشر الشك والهلع بين الناس، كما أنها تسهم في تسطيح العقول. أستطيع قبولها من شخص بالكاد أتم شهادته الابتدائية، لكن كيف يتخرج المرء من الثانوية وما زال ينطلي عليه أن الفيروس يمكن أن ينقل في وسط غير حي؟!
أما الرسائل الأكثر خطورة وإزعاجاً لي شخصياً، فهي تلك العنصرية التي لا يمكن أن يكون لها إلا أثر سيئ على لحمتنا الوطنية في بلادنا أولاً، وعلى الأمة الإسلامية ثانياً، وهي تلك التي تفوح منها رائحة الطائفية النتنة. فمن بين عشر رسائل تصلني، فإن هناك ربما أربع منها على الأقل، تحمل شتماً أو قدحاً أو سخرية أو تكفيراً لأخوتنا أبناء الطوائف الأخرى، هذا بالرغم من أنني لا أعلم عن معارفي التطرف ولا حتى الاهتمام بهذه الأمور، إلا أن لعنة التمرير الأعمى للرسائل قد أصابتهم، فأصبحوا يمررون كل ما يصل لهم سواء عن قناعة أو من باب "لا تجعلها تقف عندك". وكلما ازداد الوضع السياسي سوءاً في المنطقة كما هو الحال في سورية، أو كلما كانت هناك تحديات أمنية في القطيف، فإن حدة ووتيرة هذه الرسائل ترتفع وعددها يزداد، وكأن من يفعلون ذلك يدافعون عن شعب سورية، أو يؤكدون ولاءهم للوطن.
الحقيقة التي لا يدركها هؤلاء أو يتجاهلونها، أن الأمر في سورية عبارة عن مواجهة بين نظام فاسد ومستبد وبين شعب راغب في الخلاص، وكون رأس النظام علوياً (إحدى الطوائف الشيعية)، لا يعني أننا أمام صراع سني- شيعي. أفلم يكن ابن علي ومبارك والقذافي سنة؟ فلماذا إذاً أسقطتهم شعوبهم السنية؟
أما بالنسبة للمواجهات بين قوى الأمن والمشاغبين في القطيف، فهي أيضاً ليست صراعاً مذهبياً بين دولة على المذهب السني وبين أقليتها الشيعية، بل هي مواجهة بين دولة تريد استتباب الأمن وبين بعض الخارجين عليها والذين تراهم يهددون أمنها، وكانت ستتخذ الموقف نفسه لو أن هذه المواجهات وقعت في أي منطقة أخرى من مناطق المملكة كما حصل سابقاً. ألم تتصد الدولة لجهيمان وجماعته في مكة المكرمة؟ ألم تتصد لأسامة وقاعدته وتتعقب الإرهابيين في كافة أنحاء البلاد بعد عملياتهم الإجرامية؟
إذاً فمحاولة تحويل الصراعات السياسية والاجتماعية والحقوقية إلى صراعات مذهبية ودينية ليست فقط أمرا غير صحيح في غالبه، إلا أن عواقبه وخيمة، لأنك تستعدي بذلك المعتدلين، الذين لا يرضون بما يجري على أرض الواقع، لكنهم حين يشاهدون مذهبهم يُهاجم وتعمم عليه أفعال الأقلية فلا شك أن بعضهم قد تأخذه الحمية ويصبح مؤيداً لهؤلاء. ومشكلة هذا النوع من العنصرية أنه يولد عداء مريراً يستمر لأجيال ولا ينتج عنه سوى الخراب.
التقنية نعمة من الله على البشرية، وهناك آلاف الاستخدامات الرائعة التي يمكن أن يستفاد بها منها، فلماذا نختار أن نحولها لنقمة وأداة لنشر الجهل والكذب والشائعات والطائفية؟ أليست مجتمعاتنا أحوج ما تكون للخروج من عصور الركود والانهزام إلى عصور النهضة والتطور؟