يقول جبران خليل جبران "المحبة لا تعطي إلا ذاتها، المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها. لا تملك المحبة شيئاَ، ولا تريد أن أحدا يملكها. لأن المحبة مكتفية بالمحبة".

مذ نأتي إلى هذه الحياة ونحن نمر بخبرات بعضها جميل، وبعضها حزين.. وبعضها قاس.. ولكنها الحياة التي يجب أن نحياها بحلوها ومرها، تعلمنا دروسا وعبرا، بعضها يأتي مما يحدث للآخرين، ولكن أغلبها مما يحدث لنا. لكن التي تهزنا وتحفر في ذاكرتنا وقلوبنا هي التي تأخذنا من أمان الحياة اليومية وتقذفنا في غياهب الحزن.. الغضب.. الحقد.. اليأس.. فمنا من يقضي حياته ينظر خلفه، يتأمل الأبواب التي أغلقت.. يفكر، يبحث، يحاول أن يحلل الأسباب.. يشتكي، يتضجر. منا من يرمي حقده وكراهيته على من حوله ظنا منه أن ذلك سوف يعطيه بعض الراحة. أنا أتألم إذا يجب أن يتألم من هم حولي.. أنا ظلمت فلا بأس إن أنا ظلمت غيري، ولكن منا من ينظر إلى الأمام ويرى الأبواب التي فتحها الله سبحانه وتعالى، فيعطيه ذلك الأمل والإرادة ليقف.. ينفض غبار الحقد والكراهية، ويختار أحد هذه الأبواب ليكمل مشوار الحياة فيدخل إلى المرحلة التالية من حياته مهتديا بنور الله الذي يملأ قلبه أملا، محبة وإحسانا. إن الحياة قاسية، قد تكسرنا، ولكن فقط المؤمنين بالله الأقوياء به هم من يحولون هذه الكسور إلى مواضع قوة.

توفي أبي لكنني استخدمت يتمي كمصدر قوة.. انكسر ظهري بموته، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاني الاختيار، واخترت أن أكون قوية، بأن أصبح مصدرا للمحبة، العطف، الحنان.. الاهتمام بالغير. ألا أكون من ينتظر ليحصل، بل المبادر لإعطاء ذلك كله.. فإن أردت عطفا يجب أن أعطي عطفا، وإن أردت محبةَ يجب أن أعطي محبةَ، وإن أردت اهتمام الغير يجب أن أهتم أنا أولا بالغير. إن ذلك ما يجب أن يكون حصادنا من بذور الألم، وألا نتوقع أن الظلام سيطرد الظلام، بل سيجذب الشر إلى قلوبنا.. لا شيء سوى نور الله يستطيع أن يخلصنا.

في هذه الأيام نجد أنفسنا محاطين بالكراهية والحقد والحسد وسوء الظن من الكثير ممن هم حولنا، مما يدفع الفرد إلى الشعور بالإحباط وقد يقرر أن يبتعد.. لماذا أساعد من يحاول أذيتي؟ لماذا أدافع عن من يبحث عن أخطائي، وما أكثرها، فلست سوى إنسان..؟ لماذا، ولماذا..؟ لأنني أحب الله والله خلقهم.. لأنهم بشر مثلي بحاجة إلى من يفهمهم.. يقف إلى جانبهم ويوجههم إلى النور كي يروه، كي يملأ قلوبهم.. أن يدعهم يشعرون به يدخل.. يتغلغل.. لا أن أقف على منبر وأتحدث من أعلى، بل أن أقف إلى جانبهم، آخذ بأيديهم وأريهم الطريق كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع جاره اليهودي. يجب أن نؤمن بوجود الطيبة والعطاء اللذين خلقا بداخل البشر عن طريق احترام قيمهم.. أفكارهم.. آمالهم، عن طريق ابتسامة، تقديم مساعدة، كلمة طيبة.. عندما يؤمن الغير بطيبتنا وحسن نوايانا، وهذا يأخذ وقتا طويلا ومجهودا جباراَ منا، يدفعهم ذلك للتقرب منا وبالتالي التعلم معنا. فمن خلال تعليم الآخرين ننمو ونستطيع أن نؤثر في المزيد والمزيد، فإن نحن ساعدنا المقربين سيأتي إلينا من هم بعيدون عنا، وبذلك تكبر دائرة الخير والعطاء، لكن يجب أن نحاول أن نفهم أنفسنا أولا كي نستطيع فهم الآخرين.. كيف؟ بالإصغاء وعدم الحكم المسبق، فإذا كان لا بد من محاكمة فلننصبها لأنفسنا أولا.. من منا بلا خطيئة؟ من منا بلا ذنب؟ من منا ملاك يمشي على الأرض؟ فلنوجه طاقاتنا لفهم الغير، فإن استطعنا أن نفهم الأسباب استطعنا على الأقل تفهم التصرفات.. ليس بالضرورة أن نتقبلها، وكذلك الأمر بالنسبة لغيرنا إن استطعنا أن نجعلهم يفهموننا، ليس بالضرورة أن يتقبلونا، لأننا بطبعنا كبشر نكره أو نبتعد عما لا نفهمه. لذا يجب ألا نخاف الآخرين، بل أن نفهمهم ونساعدهم على أن يفهمونا، لنجعل المحبة الصادقة مرشدنا ومن خلالها نرى الآخرين. عندها سوف نكتشف الخصال الطيبة لديهم ونعاملهم على أساس وجودها لديهم، وبذلك نساعدهم على أن يكتشفوا ما يمكن أن يكونوا عليه، وبالتالي نساعدهم على البدء بالتغيير.. فكما تعودوا على الخطأ يمكن أن يتعودوا على الخير. يجب ألا ندع الوقت يسرقنا ونبدأ من الآن.. فإن كنا عاجزين عن تغيير الماضي فنحن بالتأكيد قادرون على التأثير بالمستقبل. تقول إيفا يورك: "لن أمر من هذا الطريق مرةَ أخرى، إذاً لأخفف من أحزان أحدهم.. أزيح عائقا من الطريق، أخفف من حمل آخر..".

لنترك أثرا طيبا، إن لم يكن من أجلنا فمن أجل الأجيال القادمة. فيا شباب اليوم املؤوا قلوبكم بالمحبة، بالعطف، بالخير.. فأنتم من سيعلم أحفادنا، أنتم من سيحملنا في كبرنا، أنتم الأمل.

يقول المثل الصيني: "إن كنت تخطط لسنة.. ازرع أرزا.. وإن كنت تخطط لعشرين سنة فازرع شجرة". وأنا أقول إن كنت تخطط لمستقبل أمة فازرع محبة.