أثار مسلسل (عمر) ـ الذي يتابعه الآن ثلثا سكان العالم الإسلامي ـ جدلا واسعا مرتين قبل وبعد عرضه، على الرغم من احتياط منتجي هذا العمل الضخم (مجموعة mbc وتلفزيون دولة قطر) عبر مراجعة نص المسلسل على علماء دين مهمين قبل العرض، إلا أن هذا لم يشفع أيضا، فقد تعرض المسلسل لانتقادات واسعة قبل عرضه، بحجة تجسيد شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
مبررات الاعتراض غير منطقية بطبيعة الحال، إلا أن لدينا في المجتمعات الإسلامية أفرادا تستهويهم مسألة الاعتراض على أي شيء، وفي كل وقت، وفق تبرير ديني ولو لم تكن من الدين في شيء، والغريب أن مثل هذه الاعتراضات تأتي من قِبل بعض من لا صلة، ولا شأن لهم لا بالدين ولا بالتاريخ.
بالنسبة لي يكاد يكون المسلسل هو الوحيد الذي استحق مني الحرص على متابعته، لتخصصي واهتمامي بالتاريخ من جهة، ومن جهة أخرى اهتمامي كمشاهد بالأعمال التي تتناول الفانتازيا والدراما التاريخيتين من جهة أخرى.
بعد مرور عدة حلقات، خضع المسلسل ـ من قبل فئة النخبة من المشاهدين ـ على حكم مبدئي من ناحيته الفنية، ولذلك قد لمست خلال نقاشات مع بعض الزملاء من الوسط الثقافي تذمرا من إطالة الحلقات، بأحداث تاريخية معروفة أكسبت المسلسل نقطة ضعف، وعلى الرغم من أن الأمر مبرر فنيا من ناحيتين: الأولى أن المشاهدين ليسوا على حد سواء من الناحية العمرية، وكذلك من ناحية الاطلاع بشكل كاف على التاريخ الإسلامي في عهد البعثة المحمدية، ومن جانب آخر فطول حلقات العمل الدرامي قد تستدعي ملء الفراغ بالأحداث، التي هي ليست هامشية بالنسبة للتاريخ، ولكنها هامشية بالنسبة للعمل إذ تعتبر جزءا مكملا للحبكة الدرامية التي هي أساس العمل.
شخصيا، أعادني مسلسل (عمر) على مشاهداتي الأولى لبعض الأعمال العالمية والعربية التاريخية، ومنها المسلسل الأوروبي (يسوع المسيح) بنسختيه الأصلية والمدبلجة إلى العربية، ففي هذا العمل، القديم بعض الشيء، خضع منتجو العمل للشروط الدينيةـ الاجتماعية، التي قدمتها الفاتيكان حيث تم اختيار ممثل إيطالي لم يخرج في أي عمل من قبل، واعتزل التمثيل بعد قيامه بدور بطولة العمل متحولا إلى راهب، وذلك ربما لأنه يمثل أقدس وأعلى وأهم شخصية في التراث المسيحي. وفي السياق ذاته، قدمت الدراما الإيرانية أعمالا تاريخية دينية راقية، ومنها على سبيل المثال مسلسل (مريم المقدسة) ولا تزال مثل هذه الأعمال مستمرة.
أما على امتداد الأعمال العربية في الدراما التاريخية على مدى خمسين عاما مضت، هناك أعمال عربية وصلت إلى العالمية، ولو لم يتم فيها الاقتراب من مساحة الحساسية بتجسيد شخصيات الخلفاء الراشدين، الذين يعدون الدائرة الأقرب للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هناك عددا من الأعمال تم فيها تجسيد شخصيات الصحابة والصحابيات، ومن ذلك ما قدمه المخرج والمنتج العربي المرحوم مصطفى العقاد، في فيلم "الرسالة"، حيث أدى الممثل الراحل عبدالله غيث، دور خالد بن الوليد رضي الله عنه. ومما أذكر أيضا قيام الممثل عزت العلايلي في مسلسل آخر تاريخي بتجسيد الدور ذاته.
في الحملة الإعلانية للمسلسل، قبيل العرض، تمت الإشارة إلى أمر مهم هو أن الأعمال الدرامية العالمية تحمل بصمة تاريخية ذات أهمية كبرى، تتمثل بنشر تاريخ الشعوب وملاحمها ومنعطفاتها التاريخية الأهم عبر الفن، ولهذا أعتقد جازما أننا لن نكون استثناء من تلك الشعوب التي كتبت تاريخها عبر الصورة الدرامية بأبهى حلة، وبأفضل قدرات ممكنة.
ومما يلفت النظر في مسلسل عمر تلك الدقة الفنية والدرامية، التي اعتمدها كل من الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي، بمساعدة فريق عمل ضخم، من خلال صور البشر والحجر ومختلف التعاملات الاجتماعية والاقتصادية بشكل أقرب للطبيعة، وما يستحق الوقوف هو الدقة في اختيار مؤدي دور عمر، رغم أنه لم يكن مطابقا لضخامة عمر الجسدية المعروفة، التي تصورناها من خلال التاريخ الإسلامي، غير أن بلاغة النص وجماليته اللغوية صقلتها مواهب وقدرات بطل العمل، وأقلها صوته المميز ومخارج حروفه الواضحة، وإضافة إلى ذلك استطاع تأدية الدور ببراعة.
ومن جانب آخر بعيد نسبيا، قدمت لمسات (الماكيير) بطل العمل بصورة أشبه بصورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعتمدة في بعض المذاهب الأخرى، وربما أقل ما في الأمر أن هذه الصورة النمطية المتشابهة قد تدفع فئة من المشاهدين لمراجعة الطروحات المتطرفة في هذه المذاهب التي تصور بعض الرموز التاريخية بصورة أبعد ما تكون عن الشخصية السوية.