يبدو أن المنظمات والهيئات الإقليمية التي تنشأ من "رحم الأزمات" تبقى أسيرة لتلك الروح فتسيطر عليها ردود الأفعال الآنية والانشغال "بإطفاء الحرائق" والاهتمام بمعالجة نتائجها، فيستغرق ذلك طاقتها ويوجه سياساتها. وتجربة العمل المشترك بين المجموعة الإسلامية، في عدد من المجالات، اتسمت بهذه الصفة، لأنها ولدت في مناخ الأزمات ولم تنجح في التحرر من مزاجها ومؤثراتها، لعشرات السنين، فأهدرت جهودها وأفقدتها القدرة على تجاوز تداعيات الأزمة. ومنظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي) هي الجهة التي تحملت مسؤولية تفعيل هذا المشروع الكبير، وحققت بعض الإنجازات لكنها، بكل صراحة، لم تستطع، حتى الآن، أن تحقق "غاية التعاون" بين المجموعة في التنمية والأمن والتقارب الثقافي وإزالة أسباب التنافر، لكن هل "الإخفاق" تتحمله المنظمة، على تفاوت مراحلها واختلاف رؤية أمنائها، أم إن دول المجموعة هي المسؤولة عما تحقق؟
من الإنصاف الإشارة إلى أن المنظمة بقيادة أمينها الحالي الدكتور أكمل الدين أوغلو لديها رؤية للخروج بالعمل الإسلامي من نظرية الأزمات إلى فلسفة التعاون. وقد اعتمدت هذه الرؤية في ميثاقها الجديد الذي يؤسس العمل المشترك على قاعدة "الاعتدال والتحديث" بهدف ترسخ مفهوم الحوار وتبادل الافكار حول القيم الإنسانية القادرة على استيعاب أحوال كل أعضائها، والدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز مفهوم الحكم الرشيد الذي يحترم الشعوب ويصون كرامتها ويحفظ حقوقها، مع العناية بتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في العمل السياسي والدفاع عن سيادة القانون، ومساندة برامج النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، إلى جانب العناية بتطوير التعليم وإشاعة المعرفة والدعوة إلى العيش في العصر بكل معطياته دون التخلي عن القيم الفاضلة. لكن كل هذه "الإنجازات" على صعيد تغيير المفاهيم وتجديد الميثاق وبناء الرؤية المستقبلية تبقى غير ذات جدوى إذا لم تبادر الدول الأعضاء إلى تفعيلها. وقد تنبهت المنظمة إلى هذه الحقيقة فقدرت الدور الكبير الذي تلعبه المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وهي تعمل لاستثمار هذا الجهد، فالمملكة لها ثقلها الاقتصادي ووزنها السياسي وتأثيرها الروحي في الدائرة الإسلامية والمحيط العربي، ولها السبق، بسياساتها المبنية على "فلسفة التعاون" في دعم مشاريع التنمية بجميع الدول الإسلامية من خلال المؤسسات الدولية والإقليمية. وكانت القمة الاستثنائية الثالثة التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز – حفظه الله – في مكة المكرمة ( ديسمبر 2005م ) نقطة فارقة في رحلة العمل الإسلامي المشترك، إذ وضعت هذه القمة خطة عشرية لإحداث تغييرات جذرية ومفصلية في العلاقات بين المجموعة الإسلامية، وتجاوزت "روحانية" التضامن الإسلامي – رغم أهميتها – إلى تصور يحقق "التعاون العملي" الذي تنعكس آثاره على الشعوب في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والاجتماعية، والعمل على خلق روح جديدة تشعر الجميع بأهميتهم ودورهم كأعضاء في هذه المنظمة.
وفي هذه الأيام يتطلع المسلمون إلى نتائج القمة الطارئة التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتنعقد بمكة المكرمة في السادس والعشرين والسابع والعشرين من هذا الشهر لمواجهة حال الاضطرابات والقلاقل والتوترات التي تشهدها الساحة الإسلامية.
والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي تتصدى فيها المملكة وقيادتها لكوارث العالم الإسلامي والعمل على معالجتها، شعوراً منها بالواجب ونهوضاً بمسؤوليتها وأداء لدورها. ولعل رمزية المكان وفضل الزمان ومكانة الداعي سيكون لها الأثر على قرارات هذه القمة التي تنعقد وخارطة العالم الإسلامي تعلوها المشكلات والتوترات والحروب والشكوك، وتعرض شعوباً للفناء. فالقمة تنعقد في أجواء مقلقة من تنامي "الاستقطاب" السني الشيعي المهدد لمفهوم وأهداف"التضامن الإسلامي"، الذي نجح في الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات والروابط في الأزمات، و"مزاج التغيير" في المنطقة العربية بعد عقود من الأخطاء المتراكمة في التنمية وانسداد الأفق السياسي وفساد التعليم والتضييق على الحريات العامة وتراجع حقوق الإنسان، مع استغلال التنافس الدولي لحال المجموعة الإسلامية المتردي لتوطيد وترسيخ مصالحه الخاصة القائمة – في جزء منها – على تقسيم المقسم وتوسيع الخلافات في ظل تراجع المشاريع الاقتصادية المشتركة، مما زاد من روح الانكفاء على الدوائر الضيقة. وتسهم "الدعاية" الإعلامية في زيادة مناخ التوتر وزرع الشكوك من خلال تهويل مخاطر صعود "تيار الأسلمة" مع موجة التغيير العربي، والتشكيك في موقف دول الاستقرار وإظهارها "معادية" لهذا الحراك المتفق مع رغبة الشعوب. و"الإعلام الدعائي" ـ بهذه الرؤية القاصرة – يرتكب أخطاء فادحة في حق الأوطان ومستقبل الشعوب حين يضخم "التنافر" ويتجاهل أو يخفي محاور الالتقاء.
هذه الصورة "المقلقة" التي ينعقد في أجوائها مؤتمر القمة الإسلامي تزيد من آمال الشعوب وتدفع لطرح تساؤلات مشروعة لا تهدف إلى "التأييس" بقدر ما تسعي لتحديد الخطوط ووضع القيادات أمام مسؤولياتهم التاريخية حين يتصدون إلى مصائر الشعوب.. لا بد من القول إنها ليست المرة الأولى التي يتنادى فيها الزعماء إلى قمة طارئة لمواجهة الأزمات، وليست المرة الأولى أيضاً التي تتطلع الشعوب إلى قادتها في لحظات مصيرية بحثاً عن مخرج وخلاص من الأزمات، لكن قمة اليوم مختلفة، حيث تعيش المنطقة منعطفاً خطيراً زادت فيه حدة "الاستقطاب" إلى درجة "الانفصال"، فالأزمة السورية بكل تداعياتها المحلية والإقليمية والدولية جعلت مفهوم "التضامن" و"الأمة الواحدة" على المحك، فإما أن تتغلب القيم الأصيلة والمصالح الكبرى وتنجح القمة في الوقوف مع العدل والإنصاف، وتزيل عن الشعب السوري هذا "الكابوس" وتوقف آلة الدمار وتطلق الحريات وتفتح الآفاق أمام هذا الشعب المغلوب على أمره لاختيار قيادته وإخراج وطنه من حال الدمار، وإما أن تزيد القمة من حال "الافتراق" وحينها ستزداد الأمور تعقيداً.
اليوم تنعقد القمة، فماذا سيقدم القادة لشعوبهم؟ المملكة أدت دورها وبادرت باستضافة المؤتمر، شعوراً بفداحة الظرف وما قد ينتج عنه من مخاطر، فهل ستقف "المطامع" الصغيرة في مصير المخاطر الإستراتيجية؟