لم يكن إسقاط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا تحدياً سهلاً، بل احتاج إلى تضافر العديد من العوامل لإتمام العملية بنجاح. فبالإضافة إلى الانتفاضة الشعبية العارمة التي تمكَّنت من السيطرة على مناطق واسعة من ليبيا، أبرزها وأهمها بنغازي، لعب انشقاق الجيش الليبي وكثير من الدبلوماسيين والوزراء وكبار رجال الدولة دوراً هاماً في نجاح الانتفاضة في ليبيا. كما كان الدور الذي لعبته قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أهم عوامل نجاح الانتفاضة، فهي لم تسهم فقط في تحييد سلاح الجو الليبي، بل استخدمت طلعات جوية مكثفة لتقضي على أي محاولة للقوات الموالية للقذافي بتنفيذ هجوم أو السيطرة على مناطق هامة من ليبيا، إلى أن سقط النظام. لكن الدور البارز الذي لعبته الميليشيات المسلحة في السيطرة على أرض المعركة والقضاء على كتائب القذافي كان مثيراً للجدل منذ البداية. وقد نشرت مجموعة الأزمات الدولية The International Crisis Group دراسة حول الميليشيات التي شاركت في الانتفاضة ضد القذافي والمخاطر الأمنية التي تشكلها هذه الميليشيات على وحدة ليبيا بعد الثورة.

تقول الدراسات إن الميليشيات المسلحة في ليبيا باتت تشكل اليوم مشكلة كبيرة بعد سقوط النظام. عدد هذه الميليشيات يكتنفه الغموض؛ حيث يقدرها البعض بمئة ميليشيا، في حين يقدرها آخرون بثلاثة أضعاف هذا الرقم. ولا تنظر هذه المجموعات إلى نفسها على أنها تعمل تحت قيادة سلطة مركزية؛ حيث إنها تتبع إجراءات منفصلة في تسجيل أعضائها وأسلحتها وفي إجراءات اعتقال واحتجاز المشبوهين. وقد اصطدمت هذه المجموعات ببعضها على نحو متكرر. إن إعادة بناء ليبيا تتطلب التصدي لمصير هذه الميليشيات، إلا أن التسرع في القيام بذلك يحمل نفس مخاطر تجاهل هذه الميليشيات.

وهناك خشية من أن محاولة تفكيك هذه الميليشيات من القمة إلى القاعدة ونزع سلاحها من قبل مجلس تنفيذي يفتقر إلى الشرعية يمكن أن تحدث نتيجة عكسية. وفي الوقت الراهن، على المجلس الوطني الانتقالي أن يعمل مع السُلطات المحلية والميليشيات – وأن يشجِّعها على العمل مع بعضها البعض – للاتفاق على معايير عملياتية وتمهيد الطريق لإعادة هيكلة الشرطة والجيش والمؤسسات المدنية.

تقول دراسة "مجموعة الأزمات الدولية" إن ثمة إرثا مزدوجا يُثقل كاهل السُلطات الليبية الجديدة. الإرث الأول أورثها إياه القذافي على شكل نظام يرتكز عليه شخصياً وعلى عائلته؛ وهو نظام كان يؤلّب الأحياء والجماعات ضد بعضها البعض؛ وفشل في تطوير مؤسسات وطنية حقيقية؛ وتعمد إبقاء الجيش الوطني ضعيفاً لمنع ظهور منافسين محتملين يمكن أن يتحدوا سلطته. أما الإرث الثاني فقد نشأ من الطريقة التي تمت بها الإطاحة بالقذافي، والتي تمثلت بالتحرير التدريجي والمتقطع لأجزاء مختلفة من البلاد. لقد تطوع عدد كبير من القوات والميليشيات المحلية للمشاركة في هذه المعركة. وبعد سقوط القذافي، بات بوسع الجميع الادعاء بأنهم ضحوا بدمائهم وثرواتهم من أجل القضية، وبات بوسع الجميع أن يعتبروا أنفسهم مساهمين في التحرر الوطني.

وتعتبر دول كثيرة أن المجلس الوطني الانتقالي هو وجه الانتفاضة. فقد تشكل في وقت مبكر، وتحدث بقدر كبير من السلطة وحقق بسرعة اعترافاً دولياً واسعاً. أما على الأرض فقد كانت الصورة مختلفة. اتخذ المجلس الوطني الانتقالي من مدينة بنغازي الشرقية مقراً له، وهي المدينة التي تشكل قاعدة تقليدية للأنشطة المناهضة للنظام والتي وفرت للمنشقين عن الجيش منطقة آمنة نسبياً لشن عملياتهم، خصوصاً بعد انخراط حلف شمال الأطلسي. كان بوسع هؤلاء تشجيع المدن والبلدات الغربية على الانتفاض فقط، لكن لم يكن بوسعهم تقديم الدعم لها. وفي بعض الأوقات الحرجة، فإن بعض مكونات الجيش التي انشقت علقت على الحدود الشرقية واكتفت إلى حدٍ كبير بالمراقبة السلبية لما كان يحدث في باقي أنحاء البلاد. في عيون الكثيرين، بدا جيش الثوار على نحو متزايد على أنه قوة شرقية وليس قوة وطنية فعلاً. أما بالنسبة للمجلس الوطني الانتقالي، الذي ركَّز جهوده على الحصول على الدعم الدولي الحيوي، فإنه لم يفد الانتفاضة بشكل كامل، كما لم يتمكن من تأسيس وجود فعلي هام في الأجزاء الأخرى من البلاد.

وفي غرب ليبيا، شكَّل الثوار ميليشيات وألوية عسكرية مستقلة بدرجة كبيرة، وكانت ذاتية التسليح والتمويل، واستفادت في معظم الأحيان من الدعم المحدود للمجلس الوطني الانتقالي والحكومات الأجنبية. قدم بعض هؤلاء من خلفيات عسكرية، إلا أن معظمهم كانوا من المدنيين. في المناطق التي سيطروا عليها، اضطلعوا بمسؤوليات أمنية ومدنية تحت سُلطة المجالس العسكرية المحلية. ونتيجة لذلك، فإن معظم الميليشيات متجذرة في بعض المناطق الجغرافية – مثل الزنتان ومصراتة – ولا توحدها أيديولوجيا مشتركة، أو انتماء قبلي أو عرقي؛ ونادراً ما تمتلك أجندة سياسية واضحة تتجاوز المحافظة على أمن المناطق التي يتواجدون فيها.

وتضيف الدراسة أن الوضع في طرابلس كان مختلفاً وخطيراً على نحو فريد، حيث تضافرت جهود السكان المحليين والميليشيات المختلفة التي قدمت من سائر أنحاء البلاد. وقد أدى وجود عدد كبير من الميليشيات إلى صراعات مُسلَّحة مع نشوء تقاطعات وتنافس على السُلطة.

إن رغبة المجلس الوطني الانتقالي بوضع الميليشيات تحت سيطرة مركزية أمر مفهوم تماماً؛ حيث من الضروري القيام بذلك لبناء ليبيا مستقرة. إلا أن ثمة عقبات هائلة تحول دون ذلك. لقد بات لهؤلاء حتى الآن مصالح خاصة لن يتخلوا عنها بسهولة. كما أنهم رسخوا وجودهم وقوتهم بشكل متزايد. تقلد الميليشيات تنظيم الجيش النظامي وتستعمل تسلسلاً مشابهاً في القيادة؛ وهم يتبعون إجراءات منفصلة في تسجيل الأسلحة والعربات؛ وإصدار بطاقات الهوية؛ وإجراء التحقيقات؛ وإصدار أوامر الاعتقال؛ واعتقال وسجن المشبوهين؛ والقيام بالعمليات الأمنية، التي ترتب أحياناً كلفة كبيرة على المجتمعات المحلية التي تتعرض للتمييز والعقاب الجماعي. كما أن هذه الميليشيات تتمتع بمزايا يفتقر إليها المجلس الوطني الانتقالي وكذلك الجيش الوطني، خصوصاً المعرفة والعلاقات المحلية الأفضل، كما أنها تتمتع بقيادات قوية نسبياً وبالشرعية الثورية. على النقيض من ذلك، فقد عانى المجلس الوطني الانتقالي من الصراع والانقسامات الداخلية والافتقار إلى المصداقية.

وتؤكِّد الدراسة أن عدم استعداد الميليشيات للتخلي عن سلاحها يعكس انعدام الثقة وانعدام اليقين فيما يتصل بمن يمتلك الشرعية للقيادة خلال المرحلة الانتقالية. في حين أن المجلس الوطني الانتقالي والجيش الوطني الذي أُعيد تشكيله يمكنهم القول بأنهم كانوا من أوائل الذين ثاروا أو انشقوا وأنهم لعبوا دوراً حاسماً في الحصول على الدعم الدولي، فإن آخرين يرون الأمور بمنظور مختلف. فالبعض يعتبرهم خاضعين للسيطرة الشرقية أكثر مما ينبغي ويتهمونهم بأنهم لعبوا دوراً هامشياً في تحرير المناطق الغربية. المدنيون الذين حملوا السلاح أو الذين تعرضوا للاضطهاد في ظل حُكم القذافي يسوؤهم أن يروا مسؤولين كبارا سابقين انشقوا عن الجيش وأعضاء النخبة الحاكمة في النظام الذين غيروا ولاءهم ويدعون بحقهم في القيادة. ورغم أن الإسلاميين ممثلون في المجلس، فإن كثيرين منهم يعتبرون المجلس الوطني الانتقالي علمانياً بشكل واضح وليس على صلة بالليبيين العاديين.

كان من المفترض أن يؤدي تشكيل حكومة جديدة إلى وضع حدٍ لعنف الميليشيات ضد بعضها البعض وكذلك لتحديها للجيش الوطني؛ إلا أن العنف في العاصمة تصاعد، مع حدوث الصدامات المسلَّحة كل ليلة تقريباً. تبقى شكوك المناطق من السُلطة المركزية مرتفعة وكذلك عدم الاتفاق حول المجموعات أو الشخصيات الثورية التي ينبغي أن تحظى بالسُلطة.

المشكلة التي تثيرها الميليشيات مرتبطة على نحو وثيق بقضايا بنيوية أعمق وأبعد مدى تتمثل في إهمال القذافي للجيش والمؤسسات الأخرى؛ والاحتكاكات بين المناطق والانقسامات المجتمعية؛ والتطور غير المتسق وغير المنسق جغرافياً للانتفاضة؛ وفائض الأسلحة وغياب الثقة؛ والافتقار إلى سُلطة تنفيذية قوية وفاعلة وتمثيلية بشكل كامل؛ والمشاعر السائدة بأن الجيش الوطني الموجود حالياً يفتقر إلى القدرة والشرعية. وإلى أن يتم تشكيل هيئة حاكمة شرعية ويتم تطوير مؤسسات وطنية ذات مصداقية، خصوصاً في مجالات الدفاع، والشرطة وتقديم الخدمات الحيوية، فمن المرجَّح أن يظل الليبيون متشككين في العملية السياسية، وأن يظلوا مُصرِّين على الاحتفاظ بأسلحتهم والمحافظة على الهيكلية الراهنة للألوية المُسلَّحة وغير النظامية.

ومع هذا ينبغي أن يتم التصدي لبعض أكثر الملامح الأمنية إثارة للقلق بالتعاون بين المجلس الوطني الانتقالي والمجالس المحلية العسكرية والمدنية. وينبغي أن تُمنح الأولوية لتطوير وفرض معايير واضحة لمنع الانتهاكات بحق الأشخاص المحتجزين أو التمييز ضد جماعات بأكملها، وحيازة واستعراض واستعمال الأسلحة الثقيلة بشكل غير منضبط والصدامات بين الميليشيات. كما ينبغي أن يشرع المجلس الوطني الانتقالي بالعمل على خطوات بعيدة المدى لتفكيك الميليشيات وإعادة دمج مقاتليها بالتنسيق مع اللاعبين المحليين.

وفي المحصلة، فإن التعامل الناجح مع الازدياد الكبير في عدد المليشيات سيتطلب تحقيق التوازن الدقيق. ينبغي للسُلطات المحلية أن تتخذ القرارات، لكن ليس على حساب نظرائها المحليين؛ كما ينبغي التقدم في عملية تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها بعناية ودون تسرع ودون أن يتم ذلك على نحو مفاجئ؛ كما ينبغي على اللاعبين الدوليين تحقيق التوازن بين الحاجة إلى التدخل بشكل سافر في الشؤون الليبية وبين الالتزام بعدم وقوف موقف المتفرج حيال مستقبلها الذي لا يزال هشاً.

التوصيات

إلى المجلس الوطني الانتقالي:

1- تعزيز شرعية السُلطات المركزية من خلال ضمان قدر أكبر من الشفافية في عملية صُنع القرار وفي اختيار الممثلين في المجلس وأعضاء السُلطة التنفيذية.

2- ضمان أن تتخذ القرارات المتعلقة بنزع سلاح، وتفكيك وإعادة إدماج الميليشيات بالتشاور الوثيق مع المجالس العسكرية والمدنية المحلية.

3- تعزيز فرص مشاركة القادة الدينيين والاجتماعيين في رعاية ودعم مبادرات نزع سلاح وتفكيك وإعادة إدماج الميليشيات.

4- دعم مبادرات نزع سلاح وتفكيك وإعادة إدماج الميليشيات مالياً بالتعاون مع المجالس المحلية.

إلى الألوية الثورية، والمجالس العسكرية والمدنية المحلية:

5.السعي لإعادة دمج الثوار المُسلَّحين وتقديم الوظائف المدنية البديلة، ورعاية مبادرات التطوير المدني بالتعاون مع صناديق المدن.

6.الكشف عن جميع مصادر التمويل.

7.الاتفاق على آليات لتسوية النزاعات وفرض هذه الآليات، خصوصاً عندما تعمل عدة ميليشيات في نفس المنطقة.

إلى المجلس الوطني الانتقالي والألوية الثورية، والمجالس المدنية والعسكرية المحلية:

8.الاتفاق على القواعد وأنماط السلوك المشتركة وفرضها على جميع المقاتلين المُسلَّحين.

9. تحويل المسؤولية عن المحتجزين بأكبر سرعة ممكنة إلى السُلطات المركزية.

10.الاتفاق على عملية يقوم من خلالها المجلس الوطني الانتقالي بالتفتيش على مستودعات الأسلحة، ومراكز الاحتجاز، والنقاط الحدودية، ونقاط التفتيش وغير ذلك من المرافق التي تخضع لسيطرة الميليشيات.

11. تنفيذ خطوات أولية نحو نزع أسلحة وتفكيك وإعادة إدماج الميليشيات، وذلك من خلال:

أ‌- التركيز في البداية على الأسلحة الثقيلة.

ب‌- تقديم الدعم للمقاتلين الشباب على وجه الخصوص.

ج‌- تأسيس برنامج تدريب إجباري بتمويل من المجلس الوطني الانتقالي يغطي قواعد الاشتباك والانضباط بالنسبة لأفراد الميليشيات الذين يرغبون بمتابعة حياتهم المهنية في الجيش أو الشرطة.

د- تقديم التدريب المهني لمقاتلي الميليشيات وكذلك الحوافز المالية الضرورية.

12.تأسيس وتطبيق معايير للتعيين في المناصب الرفيعة في وزارة الدفاع والجيش وعلى أساس يشمل الجميع.

13.تشكيل لجنة غير حزبية على المستوى المركزي والمستويات المحلية على حد سواء لمراجعة وإحالة أسماء المرشحين للتعيين في الشرطة والجيش الوطني.

14. وضع التدابير اللازمة التي تمكّن المرشحين المرفوضين من الاستئناف.

إلى بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا وغيرها من الشركاء المعنيين الدوليين، بما في ذلك الدول العربية، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة:

15.تقديم المساعدة للمجلس الوطني الانتقالي في المجالات التالية ضمن مجالات أخرى:

أ‌- القيام بالتقييمات السريعة للأمن، ونزع سلاح وتفكيك وإعادة إدماج الميليشيات، والاحتياجات المرتبطة بذلك،

ب‌- تدريب الشرطة، بما في ذلك تأسيس وظيفة للدرك.

ج‌- حرفنة قوات الأمن، بما في ذلك المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان والإشراف المدني.

د‌- ضبط الحدود.