في صباي، كنت ووالدي، رحمه الله، نشاهد فيلما وثائقيا عن الحرب العالمية الأولى، في التلفزيون السعودي. كنت طبعاً صبيا يافعاً، أعي المشاهد القتالية التي كنت أشاهدها، مع كوني لا أعي بالتحديد ما كان يستعرضه الفيلم من أحداث الحرب العظمى، ولا عن تفاصيلها أو من هم أطرافها. في أحد مشاهد الفيلم الذي كنا نشاهده، كان جنديان ضخمان يتحركان ببندقيتيهما في أحد أرصفة المدينة التي احتلها جيشهم. قابل الجنديان امرأة كانت تحمل بين يديها رضيعا ممهودا، أوقفها الجنديان، وسحب أحدهم الرضيع من بين يديها ورماه على الأرض، وانكبت الأم على رضيعها وهي تبكي مفجوعة، فتحرك الجندي ناحيتها ودفعها ببسطار قدمه الغليظ وتدحرجت على الأرض وهي تبكي وتصرخ، وتمد يديها ناحية رضيعها الملقى على الأرض. كان والدي يصرخ مفزوعاً: "لا لا" عند كل حركة يفعلها الجندي مع المرأة، وهو يسب ويشتم فيه. ثم أخذ والدي يدعو عليه بصوت مرتفع، وقال بصوت غضب، أكيد بأن الله لم يمهل هذا الجندي المتوحش القذر، أكيد بأنه مات في الحرب شر ميتة. وقد تأثرت كثيراً من هذا المشهد وخاصة وأنا أرى وأسمع والدي يعلق بغضب عليه، فدعوت الله مثل أبي، بأن يكون هذا الجندي قد مات شر ميتة في هذه الحرب.
عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة، التاريخ العسكري، وكان ضمن المواد التي أدرسها مادة "الإعلام الحربي" وأثر ""البروباجاندا"" في الحرب. في هذا الكورس، تم استعراض تاريخ المواد الإعلامية الحربية التي كان لها تأثير كبير في مجريات الحروب. وكان المشهد الذي شاهدته أنا ووالدي وتأثرنا به كثيراً من ضمنها، حيث عرفت بأن الجنديين كانا ممثلين بريطانيين، يمثلان دوري جنديين ألمانيين، تم تصويره في بريطانيا، ونشر في العالم كفيلم تحريضي، على أنه من ممارسات الجيش الألماني البربرية التي كانوا يمارسونها في البلدان التي يغزونها. وحصلت على الفيلم وشاهدته، خاصة ذلك المشهد للجنديين وأم الرضيع، ولم أحتج للتفكير به ملياً، لأكتشف بأنه مشهد مفبرك. ولكن هذا المشهد ومثله من المشاهد المفبركة، كانت تدس خلسة، بين مشاهد الأفلام الوثائقية الحربية.
وهذا جزء من مهمات الإعلام الحربي، الذي يعد جزءا لا يتجزأ من المجهود الحربي، يشن في أي حرب. قال العبقري العسكري نابليون، قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي ولا السينمائي: "أعطوني تسعا وتسعين ماكينة طباعة، ومدفعا واحدا، وأغزو لكم العالم". ومن أقوال جوزيف غوبلز (1897- 1945م)، وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر، مؤسس وقائد ألمانيا النازية، الذي اشتهر بشن الدعاية التي تسبق الجيوش النازية الإلمانية التالي: "كلما كبرت الكذبة، وتم تكرارها، كلما سهل تصديقها" و "الدعاية الناجحة يجب أن تحتوى على نقاط قليلة وتعتمد على التكرار". وقد سئل لوفي ليي، أحد مؤسسي علم العلاقات العامة في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية، أنتم تكذبون على الناس، فأجاب: "لا، نحن لا نكذب على الناس، ولكننا نسمعهم ما يودون أن يسمعوه؛ حيث الحقيقة الكاملة قد تكون مقلقة ومربكة لهم، أي نحن نريحهم لا نكذب عليهم".
ومن هنا تم الاصطلاح على الدعاية المظللة، التي تشن بلا هوادة، لأغراض وأهداف سياسية وعسكرية، بـ""البروباجاندا""، بوصفها فرعا من فروع الحرب النفسية، التي هي جزء من علم العلاقات العامة. إذاً فالدعاية (Propaganda)، تعني نشر المعلومات وتوجيه مجموعة مركزة من الرسائل للتأثير على أراء أو سلوك أكبر قدر من الناس. وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات، "البروباجاندا" في معنى آخر، هي عرض المعلومات بهدف تحييد عقل المتلقي والتأثير على عاطفته. كثيراً ما تعتمد "البروباجاندا" على إعطاء معلومات مغلوطة أو ناقصة، وبذلك يتم تقديم معلومات كاذبة عن طريق منع تقديم المعلومة الصحيحة أو الكاملة، بهدف التأثير على الأشخاص عاطفياً بدل عن الرد بعقلانية. والهدف من هذا هو تغيير السرد المعرفي للأفراد المستهدفين لأغراض عسكرية أو أجندات سياسية.
"البروباجاندا"، هي حملة مؤقتة، تشن قبيل وأثناء شن الحروب أو التغييرات السياسية الدراماتيكية السريعة، وتنتهي بقطف الثمار، بأقل الخسائر الممكنة. مثال على ذلك، حملة "البروباجاندا" التي شنت على العراق، قبيل وأثناء غزوه وإسقاط حكومته وتفكيك دولته، انتهت بانتهاء المهمة. أي لما ظهرت الحقائق وبانت أسباب الغزو وأهدافه، ظهر بأن الأسباب التي تم الغزو بسببها، كانت مجرد كذب وبأن الأسباب الرئيسة كانت السيطرة على ثروات العراق وإخراجه من معادلة القوة في المنطقة العربية. حينها لم تعد معرفة الحقيقة تفيد أو تحدث أي جدوى تذكر منها.
ولكن من المهم معرفة أن "البروباجاندا"، لا تنجح إلا في ظل مناخ من تزييف الوعي، الذي يسبقها، وتأتي هي لاستثماره. وتزييف الوعي هي عملية متواصلة وطويلة، تهدف لتوجيه الصراع في المجتمع ناحية قضايا وهمية أو هامشية، لحرفه عن توجيه طاقاته ناحية قضاياه الحقيقية والمصيرية؛ بغية تسطيحه ومن ثم تهميشه للتحكم به. قال غوبلز: "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي". لأن الثقافة تؤسس للوعي، وتكشف تزييفه، حيث تعيد ترتيب الأولويات، في أي مجتمع.
نحن نعيش في ظل تزييف شنيع للوعي، لم يسبقه مثيل لتزييف العقل الجمعي كما هو حاصل الآن. إذاً فساحاتنا الجمعية، هي عبارة عن حقول خصبة لترتع فيها "البروباجاندا"، كما تشاء وكيف تشاء وأين تشاء ومتى تشاء وبمن تشاء ولصالح من تشاء. خاصة في ظل ظهور وانتشار الإعلام الجديد. فالإعلام الجديد، من فضائيات ومواقع تواصل اجتماعي افتراضية، تستطيع تسليط ماكيناتها "البروباجاندية" على بلد ما، وتفترض فيه حدوث أي شيء، وتؤكد افتراضيتها وترددها، ويحدث فعلاً ما رددته ؛ ويصبح مرتعاً للنهب الداخلي، ومهيئاً للغزو الخارجي.
كان العالم قبل نصف قرن، يعاني من أمثال رجل واحد، كجوزيف غوربل؛ وأصبح الآن في كل بيت، إمكانية خلق جوزيف غوربل، يصور ويعد مادته "البروباجاندية" بنفسه، ويزود بها الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، فتنتشر مادته الإعلامية، دون تدقيق أو تمحيص، ويشاهدها الملايين وتستغلها دوائر الاستخبارات المتربصة فتعيد فيها وتزيد. أي عندما كان العالم قبل نصف قرن، في زمن الإعلام التقليدي قد عانى من جوزيف غوربل واحد؛ فعالمنا اليوم، في ظل انتشار الإعلام الجديد، يعاني من ملايين الجوزيف غوربلات. الآن تستطيع عصابة إجرامية، اقتراف مذبحة أو مجزرة، أو تمثيلها وتصويرها وبثها فضائياً، وتتهم باقترافها من تشاء.
كان الغزاة بالأمس، يعتمدون على غزو حدود البلد الذي يريدون غزوه، ثم يسيطرون بعد ذلك على شعبه، أما في زمن "بروباجاندا" الإعلام الجديد، فقد تغيرت أولويات إستراتيجيات الغزو، حيث يبدأ الغزاة بغزو شعب البلد المستهدف، أو جزء منه والسيطرة عليه وتحريكه لصالحها من خلال بث وتكثيف "بروباجاندا" الإعلام الجديد عليه، ثم يصبح غزو حدوده عملية تحصيل حاصل. مما يعني بأن تحصين عقول الشعوب وشحذها بالمنطق، وتصحيح ترتيب الأولويات لديها، هي الآن خط الدفاع الأول والأخير عن أي بلد.