من أهم معالم تقدّم الدولة ومعايير العدل فيها هو مدى استقلال القضاء فيها وتقدّمه بشكل يتوافق مع العصر ومتطلباته. وقد سبق التطرق لهذا الموضوع في عدة مقالات سابقة، إلا أن هذا المقال مخصص في العلاقة بين التقنين للشريعة واستقلال القضاء. حيث استشكل بعض المهتمين الإشارة لهذه العلاقة في مقال سابق، وما هو مدى تأثير عدم تقنين الشريعة (التي هي تمثل القانون أو النظام لدينا) على استقلال القضاء؟
بدايةً؛ أود أن أشير إلى أن الاستقلال المطلوب له عدة جوانب، ربما من أشهرها الاستقلال عن السلطة التنفيذية، ولكن هذا غير كافٍ، وهناك جوانب كثيرة يجب أن يكون القضاء مستقلا عنها أيضا، ومنها على سبيل المثال؛ الاستقلال عن السلطة التشريعية (وسيأتي نقاش لهذه النقطة)، وكذلك الاستقلال عن جميع المصالح والنفوذ، سواء كانت تلك المصلحة مالية أو حزبية أو غير ذلك. فالاستقلال لا يقتصر على الجوانب السياسية فقط بل قد يدخل أيضا في مصالح المجتمع والأفراد بشكل ربما أكبر، ومن جوانبه أيضا أن يكون القضاء هو الجهة المنظّمة لكل ما يخص ذات القضاء، بمعنى أنه من يضع المبادئ والتشريعات التي تختص بعمله الداخلي كشؤون القضاة وآليات عملهم وإدارات المحاكم وغير ذلك، وهو الجهة المشرفة على ذلك في نفس الوقت، مما هو حقيقة متداخل مع عمل وزارة العدل لدينا، وهو إشكال يجب إصلاحه ليكون متوافقا مع الاستقلال الذي نصّ عليه النظام الأساسي للحكم في المملكة بنظري.
أعود إلى التقنين؛ حيث إنه لا يزال ممنوعا من خلال رأي بعض المشايخ -وهم مجتهدون ومأجورون بإذن الله في ذلك وإن كنت أختلف معهم-، فإن القاضي في الحقيقة عندما تأتيه القضية لا يقتصر جهده في فهم وقائعها وتكييفها ومن ثم الحكم فيها من خلال القانون (أو النظام)؛ بل هو أيضا يجتهد كثيرا في وضع القانون (وهذه عبارة تخصصية وهي لدينا بما يوافق الشريعة) في القضية، كون أغلب الجوانب القانونية لدينا غير مقننة. بينما في أغلب دول العالم إن لم تكن كلها؛ فإن جهد القاضي مقتصر على فهم الوقائع ومن ثمَّ تطبيق حكم القانون عليها، دون أن يجتهد في وضعه!
ولكي تكون الفكرة واضحة؛ فإن القضاء لدينا - بحمد الله - يحكم بالشريعة، إلا أن أغلب النواحي القضائية أو القانونية لم تقنن بشكل قوانين أو أنظمة، ولذلك فإن مرجع القاضي هو كتب الفقه الإسلامي كي يستخلص منها حكم الشريعة (وإن كان لدي تحفظ في وصف حكم القاضي بالشريعة)، وإن كان الأغلب في قضائنا هو الرجوع للمذهب الحنبلي -وإن لم يعتمده-. ولكن حقيقة الأمر؛ كما يعلم ذلك المتخصصون، أن المذهب الواحد من المذاهب الفقهية يوجد فيه غالبا عدة أقوال فضلا عن الفقه الإسلامي كله! ومن أكثر المذاهب في تعدد الروايات والأقوال هو المذهب الحنبلي! فالحقيقة أن القضاة يبذلون جهدا جبّارا -ويقدّر لهم ذلك- في دراسة كل قضية وفهم وقائعها كخطوة أولى، ومن ثمَّ بحث القضية فقهيا ودراسة الأقوال فيها والاختيار منها، ثم بعد ذلك يرجع للقضية ويطبق ما اختاره من تلك الأقوال، فالقاضي لدينا لا يأخذ من القانون مباشرة، بل يبحث عن القانون الصحيح بنظره من خلال أقوال متعددة ليختار منها، فهم في الواقع يؤدون جزءًا كبيرا من دور واضع النظام أو ما يسمى السلطة التشريعية (أو التنظيمية)، وهذا دور زائد لا يقوم به القضاة في أغلب دول العالم إن لم يكن كلها! إلا فيما يتعلق في النظر في السوابق وهذا له وضع مختلف ليس هذا محل الإسهاب في مناقشته.
الخلاصة من الكلام السابق؛ أن القاضي لدينا يمارس سلطة قضائية وتشريعية في الحقيقة، وهذا يمس أيضا استقلالية السلطة التشريعية! فالقضاء قد يكون لديه جوانب قصور في استقلاليته إلا أنه أيضا يتجاوز سلطته في جوانب أخرى! وبالمناسبة ولمجرد الذكر؛ فإن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تنص على أن القاضي يجب أن لا يتمتع بأي سلطة تشريعية لأجل ضمان حياديته في ألا يستخدم السلطتين معا.
هناك مثال ربما يوضّح جانبا من المشكلة؛ فعندما يأتي قاضٍ قد يكون منتمياً أو يميل إلى أفكار بعض التيارات الجهادية (وهذا وارد افتراضا ولا أعرف إطلاقا أنه قد حصل، بل المعروف عن أصحاب الفضيلة الاستقامة والوسطية)، وينظر في قضية بعض المتهمين بالإرهاب وقتل الأبرياء مثلا، فإنه لديه القدرة لكي يحكم بحكم مخفف جدا! وقد يأتي قاضٍ آخر يميل إلى تيار مضاد ويحكم بأشد العقوبات! ولذلك تكون النتيجة في الأحكام غالبا تعتمد على شخص القاضي باختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم في ظل غياب التقنين! فهل يبقى مبدأ عدم التقنين بعد ذلك متوافقا مع العدل الذي تطلبه الشريعة؟ لا شك لدي أن هذا الأمر يتصادم مع مقاصد الشريعة الكلية التي تأمر بالعدل والمساواة بين الناس. وكثيرا ما يتبنى البعض آراء ويعضدها ببعض الأدلة التي تبدو في ظاهرها برّاقة، ولكنها في الحقيقة قد تُسبب مشاكل أكبر من تلك التي يرغب في منعها!
وقد حصل تطور في مسار الفتوى لدينا، حيث أجيز التدوين للشريعة، ليكون اختياريا لدى القاضي، وإن كانت ليست كافية بنظري، إلا أنها خطوة على المسار الصحيح، أتمنى أن تحقق النتائج المرجوّة.
أخيرا؛ أدعو من أعماق قلبي جميع المهتمين أن يعيدوا النظر في موضوع منع تقنين الشريعة، لما جلبه هذا المبدأ من مشاكل لا تُحصى، ومن أهمها أنه أدّى إلى نسبة الأخطاء إلى الشريعة المنزّهة عن ذلك! وليعذرني الجميع على الاختصار الشديد، كما إن فهمَ المقال يجب أن يؤخَذ كقالب واحد وأن لا تُفسَّر بعض الفقرات بشكل منفرد، والله من وراء القصد.