البناء الفكري لأي مجتمع مهما وصم بالبدائية والتخلف يشيد معماره على أرض تغذيها تربته ومكوناتها العضوية ومعطياتها الحيوية، إضافة إلى الانتماء الديني والموروث القيمي ومدى قدرته على التماهي مع موجودات عصره، ونبوءات مستقبله، فما بالك بمجتمع يمتلك أدوات التحضر والتنوير ويبز بها غيره من المجتمعات؟ وعلى ذلك يتأسس العقل الجمعي ومن ثم السلوكيات التي تقوده ليكون منتجا وذا حضور، والمشهد الفكري السعودي لم يختلف عن تلكم الإرهاصات التي هي بمثابة الأسباب المؤدية إلى ما نراه من نتائج حضور فكري مميز على شتى الأصعدة.

غير أن هناك أصواتا ما تفتأ تردد بين الحين والآخر أن مقدرة مجتمعنا على إنتاج مفكر ذي رؤية وقدرة على تفكيك قضايا أمته أمر مستعص، وأننا بحساب النتاج الأممي لن نتمكن من مسايرة الركب أو مطارحته الأفكار، مرجعين ذلك إلى أن المفكر الحرّ في حاجة إلى فضاء من الانطلاق، وتحرر من كل قيد، وبُعدٍ عن أي رقيب، أيا كانت سلطته أو نفوذه، وعليه – بحسب زعمهم - فإن مشهدنا الثقافي لن يتسنى له النجاح في أن يواكب المجتمعات الأخرى التي أثمرت بيئاتها مفكرين وفلاسفة ومنظرين، فإذا أوردت لهم بعض الأسماء اللامعة في المشهد صرخوا منتشين بأنهم لا يعدون أن يكونوا كتاب مقالات تعالج الشأن العام وتسد حاجة المواطن في أن يرى مشكلات حراكه اليومي ماثلة أمام عينيه في الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، متغافلين عن أسماء أثبتت حضورها على الصعيد العربي فكرا وإبداعا وإنتاجا، وسجلت إنجازها على مساحة واسعة ليس لهم أن يتجاهلوها، وإلا كانوا كمن يتقي الشمس بغربال.

أمر آخر يفند تلك الانهزامية التلقائية عند بعض من يهتم بالشأن الفكري في بلادنا، هو أن المفكرين في أي مكان لم يكونوا خلوا من الضوابط التي تحدد مسار أممهم، ولا طليقي اليد يعيشون في رغد العيش لينتجوا ما أنتجوه، وأن مسألة الحرية هي مسألة نسبية إذا استقرأنا تاريخ أولئك المفكرين، فما نراه اختيارا حرا من الممكن أن يراه غيرنا قيدا وسدا منيعا، والعكس صحيح، كما أن من سمات المفكر هو أن يعايش حياة الناس ويعمل على نشر الخير والنفع بينهم وتلمس حاجاتهم المعرفية، وتقويم اعوجاجهم إن تمكن.

الفكر زهرة لا تنمو في الظلام هذا صحيح، غير أنها لن تنمو كذلك إذا غرست في الرمل أو وضعت على صخرة مهما كان الماء جاريا من حولها.