حسناً سنقاتل الطغاة مع يقيننا البات بأنهم لم يكونوا كذلك حين ولدتهم أمهاتهم.
وطالما ظلت الشعوب في معزل عن وعي هذه الحقيقة الموجعة فإن معركة التحرر من الاستبداد لم تبدأ بعد، رغم ضراوة المواجهات التي مررنا بها، كما أن المبالغة في التطلعات المستقبلية وإن ساعدت على توفير شعور مخملي بالسعادة وأدت إلى حالة من التنويم المغناطيسي إلا أن الواقع يبقى مختلفا وتبقى أكثر الاحتمالات ترجيحاً تلك التي تقتصر وظائف الثورات على شخصنة التغيير، بحيث تصبح مقولة (مستبد واحد لا يكفي) أبلغ معطيات التغيير وأدق "روزنامات" التوثيق التاريخي لـ"ما كانته" ثورات الربيع في بلدانها. ولهذا يكون على الإنسان العربي المسلم التهيؤ لاستقبال محطة قادمة من صدمات التغيير الذي يُسقط الرجل الأول في سلطة الاستبداد، على أن هذا السقوط سيؤول لمصلحة شراكة أخرى تتقاسم إرثه العريض بما يتيحه من كمائن عقابية، أبرزها قدرة هذا الإرث على تحريك الإعاقات وتفجير العبوات الناسفة واستدعاء بؤر التوتر وبذر الانقسامات وتحويل الكيانات الموحدة إلى "كينتونات" مجزأة سهلة الهضم حال الانتهاء من ترتيبات خارطة الشرق الأوسط الجديد..
وإذا صح مثل هذا التحليل فإن شعوبا ستجد نفسها في وضع انطوائي مكتئب وربما دخلت طور الارتياب من أي شيء وكل شيء..
وبهذا الصدد تستوقفنا أعراض صدع هائل يتفادى العرب بحثه رغم انقسام مواقفهم تجاه ثورات الربيع وآثارها الوشيكة بين مستوعب يمارس نزعة التشفي بخيبات الدوغما الثورية وبين مستشعر مرارة الانكسار لكنه يؤثر التحامل على جراحاته حرجاً من الشماتة.. وإلى جانب هذين الاتجاهين ثمة عوامل أساسية ذات أثر بالغ على حركة الأحداث في منطقتنا العربية والإسلامية، لأنها تشكل في الأساس حاصل عملية جمع حسابية دقيقة بين تقويمات الخارج وانتكاسات الداخل، علاوة على ما تفصح عنه مناشط انفعالية تتصدرها تيارات عقيدية وأيديولوجية عانت ويلات الاستبداد حيناً وتعايشت معه في أحايين شتى.. وما إن أخذت موجة الغضب الشعبي تمخر عباب الثورة حتى ألقت شراعها وهي لا غرو ركبت الموجة وفي طواياها مشاعر حرمان تستحثها على الانتقام وتحضها على شغل الفرص الشاغرة، وبدا وكأن على دعاة التغيير تحمل وزر الماضي وتعويض هذه التيارات المتعطشة والمتعجلة بلوغ مرحلة الارتواء وبسط النفوذ الكامل على البشر وإن لم يعد منهم – في رأي معظم تلك التيارات – من هو أدرى بشؤون دنياه!!
على أن الأهم من هذا أو ذاك عمق ارتهان مخرجات الربيع لموجهات الخارج أكثر من رهانها على مجريات الداخل ومتطلبات جيل الثورة من شباب الساحات خاصة ومجتمعاتها على وجه العموم..
في غير مكان من بلدان الربيع، تندلع وتتقابل بؤر الصراع وتتعامد سحب دخان قاتل ولا توازيها مبادرات ذاتية، إذ يغيب دور الحكماء والعلماء والثوار، وتقصى قوى التغيير خارج تعقيدات الماضي – لتحل القوى العظمى بدلاً عن كل هؤلاء وأولئك وإزاء ذلك تنفرد هذه الدولة – المدللة بامتياز الفيتو.. أو تلك – بإدارة وتائر الصراع، وما دامت صفارة الحكم بيدها وشعوبنا عاجزة عن وضع وترسيخ أسس وقواعد التنافس على السلطة فإن الوافد الغريب هو الذي يختار زمن وشخوص وعدد ومرمى ضربات الترجيح!
عند رصد نفوذ السفير الروسي في دمشق وتوأمه الأميركي في صنعاء تبدو الأمور على حقيقتها ونكتشف وهم الخداع الذي تمارسه بعض النخب السياسية العربية ضد شعوبها.. إذ لا يزيد دورها عن عمل محركات البحث (المواتس) في متناول الوافد صاحب القرار النافذ والكلمة الفصل..
ولا ريب أن تكون مبادرة خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز منطلقة من دافع القلق النبيل الذي يدعو قائدا عروبيا مسلما لا بحجم وثقل المملكة فحسب، ولكن بوزن آمال الشعب العربي المسلم المعلقة، الملك عبد الله في لحظة حاسمة توجب عليه كما على أشقائه من الزعماء والقادة العرب المسلمين انتشال الأمة من وضعها المؤسف وإعادة النظر في كثير من مسلمات الماضي وفتح صفحة جديدة تتعاطى مع تحديات العصر وتنهض بمسؤوليتها تجاه جدلية التغيير للأفضل ومن أجل الأفضل أيضا.. والمؤكد أن الملك عبد الله، وهو يطلق مبادرته لالتئام قمة إسلامية مباركة في الأرض المباركة في الليلة المباركة في لحظات مفصلية إنما يستجيب لرسالة الوحدة التي تملي على ولاة الأمر أن يكونوا دعاة محبة ورعاة عدل وقادة رشد.
ولكم تمنيت أن تخوض القمة حوارا شفافا يعيد للأمة حيويتها ويزيل الحواجز النفسية بين بعض الحكام وشعوبهم ويتيح المجال واسعاً أمام القوى الشابة التي تمارس الكمون وتضطر إلى التربص ويجبرها الحرمان والخوف على اللجوء لخيارات متطرفة عادة ما تقود إلى نتائج لم تكن يوما في حسبانها..
إننا – وأيم الحق – على مفترق طرق وتخفق قلوبنا شغفاً بقرارات القمة الإسلامية.. بيد أنا لا نملك غير التفاؤل وضراعة الابتهال إلى الله أن يسدد الخطى ويرد الأمة إلى عقلها ودينها وحضاريتها رداً جميلاً.. وشكراً أيها الملك الجليل، والرائد في كل مجال.