تسبب الصراع الذي احتدم في مصر بين المجلس العسكري ورئيس الجمهورية حول القرار القضائي بحل مجلس الشعب المنتخب في بروز جدل نظري، حول أيهما له أرجحية الحق بالتطبيق، قرارات المجلس التشريعي المنتخب أم أحكام القضاء. مرد هذا الصراع، يرتبط بشكل مباشر بتداعيات الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ 25 يناير عام 2011.

فهذا الحراك، كما هو الحال في معظم الثورات الاجتماعية بالتاريخ المعاصر، طرح ضمن قائمة أهدافه، هدفين رئيسيين: نزاهة الانتخابات التشريعية، واستقلال القضاء. الأول تعبير عن سيادة قيم الحرية، وقدرة الناس على المشاركة في صنع القرار بما يلبي حاجاتهم وتطلعاتهم المشروعة، والثاني، يعتبر استقلال القضاء، وعدم خضوعه، أو تبعيته للسلطة شرطا لتحقيق ميزان العدل، الذي هو غاية إنسانية نبيلة.

على أن تقرير الحاجة لتحقيق هذين الهدفين ليس نهاية المطاف. فالحرية في انتخابات حرة لمجلس الشعب، تعني الاختيار بين بدائل. وحين لا يكون في الساحة سوى لون واحد، لا يعبر وجود المجلس عن اختيار حر. والمؤكد أن المجتمع العربي، ومصر ليست استثناء في القاعدة، مر خلال العقود الستة الأخيرة، بمرحلة تجريف سياسي، لم تترك في الساحة قوى قادرة على التنافس الحر، وطرح برامج عدة يختار الجمهور ما يعتقد أنه الأفضل بينها. وحين بدأت ملامح تشكل الجمهورية الثانية في مصر، اقتصرت القوى المتنافسة على التيار السياسي الإسلامي، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين، التي لم يسمح لها بممارسة أي دور سياسي في العلن، إلا في فترات متقطعة وقصيرة في حقبة الجمهورية الأولى.

لذلك لم يتصور أحد، أن تكون القوى السياسية التي رفعت عاليا راية استقلال القضاء والانتخابات النيابية النزيهة، هي أول من يصطدم مع أحكام القضاء، ويتسبب في حدوث انفصام بين مجلسين يفترض فيهما أن يمثلا نبض حراك شعب مصر، أن يقود الرئيس حالة التصادم بين المؤسستين، التشريعية والقضائية.

إن العلاقة بين المؤسستين التشريعية والقضائية، في مصر، معقدة ومركبة. فالمجلس جاء في غالبيته من لون واحد، وحمل شكلا أيديولوجيا. وتم انتخابه في عجالة، قبل الاتفاق على دستور دائم للبلاد، تحدد بموجبه صلاحيات المؤسسات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. والأخيرة هو المؤسسة الوحيدة التي اتفق الجميع على استقلالها وممارستها لصلاحياتها، واعتبر المساس بها خطا أحمر.

والنتيجة أن لونا سياسيا واحدا سيطر على المجلس، وعلى الموقع الرئاسي. إضافة إلى أن نسبة جيدة تحرك الشارع المصري، تنتمي إلى هذا اللون، بما يضيف إلى القضية المطروحة ارتباكات وتعقيدات أكبر، حيث ينقسم الحراك المصري الآن، إلى ثلاثة ألوان رئيسية. لون يتحرك في شارع التحرير، يطالب بصلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية، وبعودة العسكر إلى ثكناتهم، بعد تسليم السلطة للرئيس. ولون سياسي آخر، يتظاهر في ميدان طلعت حرب، يساند القضاء، ويطالب باحترام قراراته. ولون ثالث، يتظاهر أمام المنصة في مصر الجديدة، يناصر العسكر، ويقف بالضد من تفرد الإخوان على السلطة في مصر.

إن اللون السياسي المهيمن على الأمور الآن، بقيادة حزب الحرية والعدالة، لا يسهم كثيرا في الحيلولة دون تصاعد الخلاف بين المؤسسة الرئاسية، والمجلس العسكري. وقد اتضح ذلك بشكل جلي من خلال بعض التصريحات. فعلى سبيل المثال، طالب المستشار القانوني للحزب، الدكتور أحمد أبوبركة، رئيس الجمهورية بإعادة العمل بدستور 1971، وإلغاء كل الإعلانات الدستورية السابقة التي صدرت بعد 25 يناير.

ومن جهة أخرى، قاد حزب الحرية والعدالة أيضا، مظاهرة، بميدان التحرير، لكن المشاركة فيها كانت محدودة جدا. بهدف المطالبة بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل، وتسلم الرئيس مرسي لكامل صلاحياته.

في هذه المناخات المرتبكة، يجد الرئيس مرسي، نفسه بين خيارين أحلاهما مر. إما الخضوع لانتمائه الحزبي، وإصدار إعلان دستوري من جانب واحد، دون التشاور مع المجلس العسكري، ودون استفتاء شعبي، أو رفض إحداث أي تغيير حتى يتم إصدار دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات نيابية أخرى، واستكمال بناء مؤسسات الدولة، ووضع نفسه في صراع مع الحزب الذي ينتمي إليه، والذي كان له الفضل الأول في وصوله إلى السلطة. ويبدو أن الخيار الأول هو الأكثر احتمالا.

ما هو متوفر من معلومات، يؤكد أن الرئيس انحاز لعصبيته الأيديولوجية، وقرر إعادة البرلمان المنحل، في خطوة اعتبرها الكثير من القانونيين ضربة موجعة للقانون والدستور المصري، وبأنها التفاف على المبادئ التي انطلقت من أجلها ثورة 25 يناير، وأنها وضعت مصر مجددا، على كف عفريت، وأضافت ثقلا إلى الواقع المأزوم أصلاً، بما يؤثر سلبا على الحياة السياسية في مصر الشقيقة. والأكثر سوءا أن الرئيس، اختار الاصطفاف مع قوانين الحزبية الضيقة، بدلا من الانحياز للشعب الذي اختاره للموقع الأول. وتسببت مواقف حزبه في وقيعة بين أهم مؤسستين، في ظل أي نظام تعددي هما مؤسستا التشريع والقضاء. لقد فضل الالتزام بقرار مجلس شورى الجماعة، الذي أكد عودة مجلس الشعب للعمل، وبذلك تمت شبهة خدش اليمين الدستوري أمام هيئة القضاء، ممثلة في الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى، حين أقدم على نقض أحكامها.

سيجادل كثيرون، في أن ما أقدم عليه الرئيس، لم يكن سوى إلغاء لقرار إداري أصدره المجلس العسكري، بتنفيذ حل برلمان منتخب، ومنع أعضائه من دخول مقر المجلس. وأن مبرر ذلك هو إثبات مكانته وممارسة صلاحياته، وعدم تمكين المجلس العسكري من ممارسة التشريع، في وجود رئيس منتخب، ينبغي أن تفوق هيبته وصلاحياته هيبة وصلاحيات أية هيئة أو مؤسسة أخرى.

لكن ذلك خلق أزمة قانونية وسياسية في بلد يعاني من مشاكل تنوء بحملها الجبال، وأوقع صداما لا يمكن التنبؤ بنتائجه بين القوى السياسية الحزبية والمدنية، والمجلس العسكري الذي يمثل صمام الأمان في حماية أمن مصر واستقرارها. كما طرح السؤال بقوة عن أيهما المرجع بالنسبة للجمهورية الجديدة، الانحياز لمؤسسة التشريع أم الالتزام باستقلالية القضاء.