أنا أعلم، مثلاً، أننا في رمضان الكريم نكون أقرب إلى ملامسة الهموم الإنسانية من قصص هذه الحياة، في حياة آخرين معنا في هذا المجتمع. ومع هذا أعلم بالتجربة أن لهذا الشهر الفضيل على الفقراء والمعدمين قسوة مضاعفة، لأنهم في هذا الشهر بالذات يستمرئون المقاربة والمقارنة مع حظوظ الآخرين من حولهم. وحين أقول لابنتي الصغرى إننا سنذهب معاً قبل الإفطار إلى عائلة تعيش اليوم ذات طقوس إفطاري قبل ما يقرب من خمس وثلاثين فإنها لا تخرج من بيتهم بدموع على أوضاعهم قدر ما أقرأ في عيونها الباكية أنها تبكي نمط حياة والدها قبل ذات خمس وثلاثين سنة. هي لا تبكيهم قدر ما تبكي علي. أنا أستلطف عاطفتها الجياشة الباكية حين أشرح لها أن ظروفي يومئذ هي ظروف كل القرى يوم كان – الكفاف – يوزع عدالته بين الجميع بلا تمييز في المطلق. هذا الفقر المخيف في عالم اليوم أشد وطأة في مثل مجتمعنا الطبقي.

أنا لا أقبل اليوم أبداً أن يعيش طفل ذات طقوسي الرمضانية قبل خمس وثلاثين سنة. لا أقبل، مثلاً، أن أراقب أماً، قبيل الإفطار توزع فطائر – السمبوسة – بالعدد الرسمي جرداً على أفراد العائلة. لا أتحمل جملة بريئة من طفل صغير يسأل أمه إن كانت تستطيع طبخ لحمة حمراء قبل أذان المغرب. لا أتحمل، وأنا الحزين المكتئب في الأصل، فرحته وهو يجيب على سؤالي: نحن نأكل الدجاج منذ سنة. أشعر بالغبن والقهر حين أعلم أن أماً أخرى أجلت عملية – المياه البيضاء – في المشفى الحكومي لأنها فضلت شراء لوازم الإفطار على شراء – العدسة – الطبية وبطلب من المستشفى الحكومي الرسمي. هذه القصة الحقيقية مهزلة إنسانية، لأن انتداب المسؤول الواحد في اليوم يكفي لشراء عدستين، وجملة انتدابه في العام الواحد تكفي لرتق خمسين عيناً أخرى. أشعر بالحزن لأن هذه الأم فضلت مائدة أيتامها البسيطة المتواضعة على نظر عيونها رغم المخاطرة: هنا بين اليتامى والفقراء تكون الطفلة فعلاً أغلى من العين. أشعر بالحزن الشديد لأن اليتيم الأكبر أعطى مالك الدار سيارته المصنوعة منذ 23 سنة رهناً حتى يستطيع تسديد الإيجار. أحزن جداً لأنني لا أعمل لمثل هذه القصص ولمثل هؤلاء حتى شيئاً مما أستطيع مثلما يحزنني أننا جميعاً لا نصدق أن مثل هذه القصص تعيش بيننا حتى في رابعة الفريضة الرابعة...