ونحن الآن في خامس أيام شهر رمضان المبارك، تكبر معنا الأحلام ومعها ترتسم خريطة الأمل الإنساني في صورته الجلية البهية، حتى تتبلور وفق قنوات الحياة المنظمة تحت مظلة المساواة والعدالة. ولعل الصيام بطقوسه الجميلة التي بها حماس جماعي وسلوك جمعي يعطينا أملا أكبر للتقارب الاجتماعي.
وهذا أهم ما يميز شهر رمضان عن بقية شهور العام. إنه وجود الجو الروحي الخاص بين أفراد المجتمع الواحد، حيث يرسخ الصيام العدالة الاجتماعية بين المسلم الفقير والمسلم الغني حين يشعران بالمساواة، فكلاهما يجوعان معاً ويشبعان معاً.. وبين اليتيم وابن الأكرمين.. فما عاد اليتيم يشعر بألم تلك الغربة التي تحيط به، فقد صار كل مسلم له أباً وكل مسلمة له أماً، فشعر بالدنيا تضمه إلى صدرها بعطف وإشفاق لتعوضه عن دفء حضن أمه وفيض حنان أبيه.
هذا إذا ما نظرنا إليه من زاوية اجتماعية، لكن يبقى الجانب الروحاني من أهم أسباب تشريع الصيام.
إن الصيام وسيلة للتفكر والإحساس، وطريقة للتأمل والوصول، وحالة من التصوف التي يفعلها الشخص لتسمو روحه، إذ إن الصوم ليس مجرد فضيلة للجسد بعيداً عن الروح، فكل عمل لا تشترك فيه الروح لا يعتبر فضيلة على الإطلاق.
فما هو عمل الجسد في الصوم؟ وما هو عمل الروح؟
الصوم الحقيقي هو عمل روحي داخل القلب أولاً، وعمل الجسد في الصوم، هو تمهيد لعمل الروح، أو هو تعبير عن مشاعر الروح. ليس الصوم تعذيباً للجسد، إنما الصوم تسامٍ بالجسد ليصل إلى المستوى الذي يتعاون فيه مع الروح.
الروح تسمو فوق مستوى المادة والطعام، وفوق مستوى الجسد معها في موكب نصرتها، وفي رغباتها الروحية، ويعبر الجسد عن هذا بممارسة الصوم، إنما بالأصح هو تسامي الجسد وطهارة الجسد، ليس هو حالة الجسد الذي يجوع ويشتهي أن يأكل، بل الذي يتخلص من شهواته ويفقد الأكل قيمته في نظره. الصوم فترة ترفع فيها الروح وتجذب الجسد معها.. فترة روحية يقضيها الجسد والروح معاً في عمل روحي، يشترك فيه الجسد مع الروح في عمل واحد هو عمل الروح، يشترك معها في الصلاة والتأمل والتسبيح.. نصلي ليس فقط بجسد صائم، إنما أيضاً بنفس صائمة.. بفكر صائم وقلب صائم عن الشهوات والرغبات.. عن الكذب والغيبة والحسد والنميمة، وترك هذه الصفات السيئة طريق إلى الصحة النفسية، إذ إن الصحة النفسية بتعريفها البسيط حالة من السواء النفسي في العقل والوجدان والحركة، وترتبط الصحة النفسية بالحياة الفاضلة والأخلاق الحميدة بما يكفل التوازن بين احتياجات الجسد والروح، ومطالب العقل والقلب.
إن الحالة من التصوف التي عرفها الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلت الصيام في الإسلام واحدا من أركانه الخمسة لم تعد موجودة لدى الكثير من المسلمين اليوم..
بل أصبح الصيام روتينيا تكراريا..
إن ما يحدث لدينا هو أنه يتم الاهتمام بأمور الصيام التطبيقية أكثر من معانيه الروحية، نجد أننا نهتم بموعد الإمساك والإفطار بالثانية، وننشر سفر الطعام الممتدة بالأمتار، كأننا لم نصدق سماع صوت المؤذن من المسجد القريب منا يصدح بالأذان لنبدأ في الأكل بشراهة.
إذن تحول الصيام إلى صيام حسي ليس له معنى آخر، بل هو مفرغ تماماً من أي معنى سوى معنى الأكل والشرب، ونسينا أن الصيام ليس تجويعا للجسد بل هو غذاء للروح.
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: "رُبّ صائم ليس له من صيامه إلاَّ الجوع والعطش".