• الحرب كعادتها الهدامة.. في جزءٍ مما تفعله أنها تعيد التعريفات، بحيث تكون أجواؤها طرفاً في معنى أي شيء، بل وتبتكر معاني وأسماء لم تكن موجودة. ليست الحرب مجرد طرفين يتنازعان، ليست قتلى وجرحى، مشردين ومعذبين وأسرى فحسب، هي أفظع من كل هذا؛ إنها تدمير ذاكرةٍ ووجدان مطمئنٍ ومستقر، وإعادة تكوين ذاكرة وتشكيل أنفسٍ ورؤى أخرى، بغاية الوجل، وفي منتهى الخراب والريبة في الوجود كله، والشعوب حتى لو انتصرت ـ ولا بدّ لها أن تنتصر ـ إلا أنها تحتاج أجيالاً لتتعافى من ثقوب الطلقات والحواجز والمنجزات التي في روحها، تحتاج أجيالاً لتختفي عيون القتلة وزفرات الشهداء الأخيرة.
• بهذا سيكون الذين يكبرون في سورية، منذ عامٍ ونصف، يحملون الآن فكرةً أخرى عن الأشياء، غير تلك التي نعرفها، لا الموت نفس الموت، ولا الحياة نفسها، ولا الحب ولا السحابة، لا الكرامة والجوع، ولا الخوف والطفولة.. إلخ، لا شيء كما هو، ولا شيء سيبقى كما هو، وربما صارت لزمات الطبيعة مثار كوابيسهم مهما مرّ الزمن. هذا هو الشقاء الذي يلقي قنابله البغاةُ في خيالات الأطفال وكوابيس المسنين أكثر مما يخزقون الأجساد والجدران بقذائفهم!
• ستبقى الغيمة في عين الطفلة السورية، وإن في آخر الأرض، لا تعني المطر فقط، فمهما زخّت وغسلت الأرض بغيثٍ ناعم، إلا أن الغيمة سيبقى فيها احتمالٌ آخر، سيقول الأطفال والنسوة والرجال وكل من شهدوا الحرب في أنفسهم؛ لا بد أن هذه الغيمة جاءت من دويٍّ ودخانٍ أسود، وصياحٍ يعلو من ناحيةٍ ما! تصير البروق لمعات الفوّهات، ونقرات المطر على الشبابيك تستحيل إلى صوت الرعب المتربص خلف أردافها!
• تترك الحرب بين أبنائها أن الموت وثيقة لسنّ البلوغ، أما الحياة فهي سؤالٌ مرتاب يواجهه الرجال؛ بأي طريقةٍ بقيت حيّاً! تترك الحرب أن الغرام هو تولّه امرأةٍ حرّة، بالرصاصات التي لم يجد وقتاً ليخرجها رجلٌ ما، من أحد فخذيه أو كتفيه. تصير الجروح والندبات مزحة، والبقاء إما بطولة أو احتيالا أو تفاديا للدمار، وأما العائلة فتاريخها بعدد قتلاها!
http://youtu.be/eywc4anU4M
• ترى أي تعاريف للحياة نمت عليها أجيالٌ في فلسطين ولبنان، وأي تعاريف للحياة ستنمو عليها أجيالٌ أخرى في العراق، وليبيا، وتونس، ومصر، واليمن، وسورية، وهل تعي الأنظمة الجديدة في هذه البلدان وجدان شعوبها، هل ستعمل على صبّ كل التعريفات والمعاني والتجربة التي مرّ بها الناس لإعلاء قيمة الحياة والعمل وشراكة الوطن ومصيره!