تستعد القوات الأميركية لإنهاء الخطوات الأخيرة من عملية الانسحاب من العراق في نهاية ديسمبر الحالي، وربما تشكل هذه المناسبة فرصة لمراجعة الحسابات والنتائج للاحتلال الأميركي للعراق خلال السنوات الماضية. هناك احتمالات بحدوث تحول كبير في موازين القوى في المنطقة. ومع اقتراب الموعد النهائي لانسحاب القوات الأميركية، تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بتحركات مضادة في محاولة لمنع إيران من ملء فراغ القوة والهيمنة على المنطقة. ويقول تقرير نشرته مؤسسة "ستراتفور" الأميركية للأبحاث مؤخراً إن إيران تستعد منذ فترة للانسحاب الأميركي. ومع أنه من غير المنطقي القول إن إيران ستسيطر كلياً على العراق، فإنه يمكن القول إن طهران سيكون لها نفوذ كبير في بغداد إلى درجة أنها قد تتمكن في المستقبل من إجهاض أي مبادرة عراقية لا توافق عليها إيران. هذا النفوذ سيزداد مع اكتمال انسحاب القوات الأميركية ويتضح أنه لن يكون هناك أي تراجع مفاجئ في سياسة الانسحاب. حسابات السياسيين العراقيين يجب أن تأخذ بعين الاعتبار قرب القوة الإيرانية والبعد المتزايد للقوة الأميركية.

يقول تقرير ستراتفور إن مقاومة النفوذ الإيراني في هذه الظروف ستكون على الأرجح غير مجدية وخطيرة. البعض، مثل الأكراد، يعتقدون أن لديهم ضمانات من الأميركيين وأن الاستثمارات الأميركية الكبيرة في النفط الكردي تعني أن هذه الالتزامات سوف يتم احترامها. لكن نظرة على الخارطة تظهر مدى صعوبة الالتزام الأميركي بذلك.

سورية وإيران

الوضع في سورية يُعقِّد الأمور أكثر. أبناء الطائفة العلوية، الذين يمثلون 7-10% من إجمالي عدد السكان في سورية، يسيطرون على الحكومة السورية منذ عام 1970، حين قام حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي، بانقلاب عسكري على النظام في ذلك الحين. الحكومة التي قادها حافظ الأسد إلى الحُكم كانت علمانية اشتراكية، لكنها كانت تتمركز حول الجيش. وعندما برز الإسلام كقوة سياسية في العالم العربي، وجد النظام السوري في الثورة الإسلامية في إيران حصناً منيعاً. وقد منح الإيرانيون أيضاً سورية الدعم الذي كانوا يحتاجون إليه في مغامراتهم الخارجية في لبنان، والأهم من هذا في قمع الأغلبية السنية داخل سورية.

كانت السياستان السورية والإيرانية متوازيتان بشكل خاص في لبنان. ففي أوائل الثمانينات من القرن العشرين، بعد ثورة الخميني، سعى الإيرانيون إلى زيادة نفوذهم في العالم الإسلامي من خلال دعم القوى الشيعية المتطرفة. وكان حزب الله اللبناني واحداً من هذه القوى. كانت سورية قد دخلت لبنان عام 1975 لصالح المسيحيين ضد منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت سورية تعتبر لبنان، تاريخياً، جزءاً من سورية، وسعت إلى تأكيد نفوذها وسيطرتها على هذا البلد. من خلال إيران، أصبح حزب الله أداة لقوة سورية في لبنان. لذلك دخلت سورية وإيران في تحالف طويل المدى استطاع أن يستمر حتى يومنا هذا. وفي الاضطرابات التي تمر بها سورية حالياً، ورغم أن غالبية الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتخذت مواقف معادية للنظام السوري بسبب القمع الذي يقوم به تجاه شعبه، إلا أن إيران قد تكون البلد الوحيد في المنطقة الذي بقي مؤيداً تماماً للحكومة السورية الحالية.

وهناك سبب يبرر الموقف الإيراني من سورية. قبل الانتفاضة، كانت العلاقة بين سورية وإيران متقلبة. فقد كانت سورية قادرة على الفصل بين تعاملها مع إيران ووكلاء إيران في لبنان. ومع أن سورية كانت تدعم حزب الله بقوة، إلا أن النظام السوري كان قادراً على كبح قوة حزب الله في لبنان، بحيث بقيت سورية تلعب الدور المهيمن هناك. لكن الانتفاضة وضعت نظام الأسد في وضع دفاعي وجعلته أكثر اهتماماً بعلاقة قوية ومستقرة مع إيران. النظام في دمشق يرى نفسه معزولاً بين الأنظمة السُنية المحيطة به، خاصة مع اتخاذ تركيا والجامعة العربية مواقف معادية له. إيران وحكومة المالكي في العراق يشكلان عوامل الدعم الخارجي لسورية حالياً.

حتى الآن، استطاع بشار الأسد أن يقاوم خصومه. مع أن بعض الضباط والجنود السُنة قد انشقوا عن الجيش السوري، إلا أن الجيش لا يزال متماسكاً إلى حد كبير؛ وهذا يعود إلى أن العلويين يسيطرون على الوحدات العسكرية الأهم. الأحداث في ليبيا جعلت القيادة السورية تعي معنى الخسارة. الجيش بقي متماسكا، ولذلك لا يمكن لحركة بسيطة التسليح أن تهزمه. إذا استطاع الأسد أن ينجو، ستكون إيران هي الرابح الأكبر. وإذا وقع العراق تحت نفوذ إيراني، ونجا النظام الحالي في سورية، فإن إيران ستبرز في منطقة نفوذ تمتد من غرب أفغانستان حتى البحر الأبيض المتوسط. تحقيق هذا لن يتطلب نشر قوات إيرانية تقليدية، فإن نجاة نظام الأسد وحده ستكون كافية. لكن احتمال استمرار نظام سوري مدين لإيران بالفضل سيتيح احتمال نشر قوات عسكرية إيرانية باتجاه الغرب، وذلك الاحتمال وحده سيكون له تداعيات مهمة.

والمشكلة هي احتمال إقامة تكتل تحت نفوذ إيران عبر رقعة استراتيجية واسعة. ويجب الإشارة هنا إلى أن إيران، بالإضافة إلى شبكتها الكامنة من الوكلاء المتشددين، فإن قواتها التقليدية كبيرة أيضاً. ومع أنها لا تستطيع أن تنتصر على القوات المدرعة الأميركية، إلا أنه لا توجد فرق مدرعة أميركية بين إيران ولبنان. قدرة إيران على حشد قوات كبيرة في هذا النطاق تشكل خطراً على دول المنطقة الأخرى، وربما تأمل إيران أن هذا سيرغم هذه الدول على التكيف مع هذه الأوضاع الجديدة بدلاً من مقاومتها. لذلك تسعى الدول التي تخشى من هذا الاحتمال إلى إحباط المشروع الإيراني.

ومن اللافت أن زيادة النشاطات المسلحة ضد النظام السوري جاءت مع تدهور العلاقات الإيرانية-الأميركية، بعد أن اكتشفت السلطات الأميركية مؤامرة إيرانية لاغتيال السفير السعودي في واشنطن، وكشفت السلطات البحرينية عن وجود خلية إرهابية مدعومة من إيران كانت تُعد للقيام بهجمات ضد البحرين، في وقت ذكر فيه تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران تسعى لتطوير قنبلة نووية. هذه الأمور ساعدت في وضع ضغوط نفسية كبيرة على إيران.

ويعتقد كثير في الولايات المتحدة والغرب عموماً أن إيران قد تكون قريبة من إنتاج جهاز نووي يمكن تفجيره تحت الأرض في ظروف يتم السيطرة عليها بشكل تام، لكن قدرتها على صنع سلاح نووي قوي يمكن استخدامه خارج ظروف المختبر (أي خارج نطاق التجربة تحت الأرض) لا تزال بعيدة جداً. التهديد الإيراني الحقيقي ليس نووياً. قد يتطور الأمر ليصل إلى التهديد النووي، لكن إيران تبقى تُشكل تهديداً حتى دون أسلحة نووية. والتصعيد الحالي بدأ منذ اتخاذ القرار الأميركي بالانسحاب من العراق، وتكثف بسبب الأحداث في سورية. حتى لو تخلَّت إيران عن برنامجها النووي غداً، فإن الوضع سيبقى معقداً.

حالياً، تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بتبني استراتيجية من شقين: زيادة الضغوط على إيران لجعلها تعيد حساباتها حول نقاط ضعفها، وإسقاط النظام السوري للحد من نتائج النفوذ الإيراني في العراق. لكن إمكانية إسقاط النظام السوري لا تزال تسبب إشكالية واضحة. حتى نظام القذافي كان يمكنه أن يستمر لولا تدخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو). ومع أن الناتو يستطيع التدخل في سورية، إلا أن الوضع في هذا البلد أكثر تعقيداً وصعوبة مما كان الوضع عليه في ليبيا. علاوة على ذلك، فإن قيام حلف الناتو بشن هجوم ثان على بلد عربي من أجل تغيير النظام سيكون له نتائج غير مرغوبة، مهما كان حجم تخوف العرب من الإيرانيين في هذه المرحلة. فالحروب لا يمكن التنبؤ بها، وهي ليست الخيار الأول.

لذلك فإن الحل المحتمل هو استمرار الدعم السري للمعارضة السُنية عبر لبنان وربما تركيا والأردن، رغم أن نجاح هذا الأمر غير مضمون أيضاً. فقد نجحت الاستخبارات السورية في اختراق المعارضة السُنية على مدى العقود الماضية. وشن حملة سرية ضد النظام السوري سيكون صعباً، ونجاحها غير مضمون على الإطلاق. ومع ذلك فإن هذه هي الخطوة التالية، لكنها لن تكون الخطوة الأخيرة. لإعادة إيران إلى حجمها، يجب عمل شيء حول الوضع السياسي العراقي. بسبب الانسحاب الأميركي، سيكون لواشنطن نفوذ قليل هناك. جميع العلاقات التي بنتها الولايات المتحدة هناك كانت مبنية على قيام القوة الأميركية بحماية هذه العلاقات. مع رحيل الأميركيين، يذوب أساس هذه العلاقات. وحتى مع سورية، فإن موازين القوى تتغيَّر.

ويخلص تقرير ستراتفور إلى أن أميركا لديها ثلاثة خيارات: فهي إما أن تتقبل الوضع الذي آلت إليه الأمور وتتعايش مع ما يمكن أن يظهر. وإما أن تحاول الوصول إلى اتفاق مع إيران –وهو سيكون تفاهماً مؤلماً ومكلفاً بالتأكيد. وإما الذهاب إلى الحرب. الخيار الأول يعتمد على مدى قدرة الولايات المتحدة على أن تتعايش مع ما يمكن أن ينشأ لاحقاً. الخيار الثاني يعتمد على مدى اهتمام إيران بالتعامل مع الولايات المتحدة. والآخر يعتمد على امتلاك القوة الكافية لشن الحرب وعلى امتصاص ضربات إيران الانتقامية، خاصة في مضيق هرمز. جميعها مشكوك فيها، لذلك فإن إسقاط نظام الأسد أمر حاسم لأنه يغيِّر اللعبة والزخم بالكامل. ولكن حتى ذلك صعب جدا ومشوب بالمخاطر.