هذه الرؤية ليست حركة ارتدادية زمانية ومكانية لحياة القرية الآفلة، ولكنها ارتباط مندفق وتلقائي للمشهد القروي كفضاء احتفالي يطلبه ويستطيبه الباحثون عن التجليات والتداعيات الوجدانية، واستدعاء جماليات الواقع المرئي للقرية ككون متسع وإحساس مشبع بالحميمية، والبساطة وعدم الاطمئنان لتبدلات الحياة، فالقرية بالنسبة لإنسانها وساكنها هي الخصب والامتلاء واختراق المجاهيل، وتيمة العشق المتسامي والغبطة الأزلية، والمواءمة بين ذواتهم وطين الأرض، والهجرة إلى أقاليم الليل والنهار، والانفتاح على كل الموجودات والمكونات والمؤثرات الحسية التقابلية والتضادية، وما تمثله من انعكاسات طافحة وشفرات إيحائية لا يجيدها إلا قروي، أسمع هسيساً مندساً وتمثلات صوتية منجرفة يلوكها بشر المدينة كناتج انشطاري متنافر حول العودة إلى القرية فالماضي لا يعود، وما ذلك إلا غشاء لفظي متغافل، وإهاب توهمي ضيق، نسجته تجارب حضارية آنية ومبتغاة، وشكلته مدنية تفكيكية ذات أنياب، إن هذه الرؤى المطروحة في المقال لا تعني النكوص والاجترار والانتقال من حال إلى حال، ولكنها دعوة ملحة لاستثمار ما في القرية من ذخائر موروثة عريقة وقيم عليا، وعلائق إنسانية غير مصنعة، فالقرية تمنحنا الألفة وأواصر الارتباط، والنسيج الاجتماعي المتماسك وديمومة الشعور بحب الأرض وشآبيب العواطف المشحونة والمتوثبة. هناك من يطالب بإسكات هذه المناحة المستديمة وترك العربة تسير دون الالتفات إلى الخلف بل يستخف بهذه الطروحات العتيقة ويعتبرها اعتلالات واضطرابات ورهابا حضاريا، وإحساسا بالتناقض والوعي المضاد، ولكن الانفصام عن الأرض خصيصة كارثية وانسحاق خادع وتضئيل هش للوجود البشري، ما الذي يمنع سيادة الروح القروية حين تستولد المدينة شروط الحياة فيها، من حيث المعايير الأخلاقية والفروسية والعلاقة العضوية الرهيفة بين مكوناتها الروحية والمادية والمقومات الشخصية الجديرة بالاحترام، والتصالح مع المكان "إنساناً وشجراً وكائنات".
إن القرية هي الملاذ وراحة البال حين تقمع المدينة ساكنها وتحاصره بحرقة المتاهة الضاغطة، والهموم اليومية والقلق المحبوس، والانكفاء الشعوري الجائر، ليكتشف أن تلك المدينة بلا قلب، أما القروي فتسيل عاطفته من صميم وعيه وتوقه وهو يحدثك عن احتمالات المطر واشتعالات الضحى، وقافلة الغروب وهبوب الريح وأفراح الحقول، ومصابيح الدروب وأعراس السنابل وشهقة الظل، وطيور الشتاء وأغنيات الرحيل وهديل الفصول، وضحكات القمح قبل الحصاد، لم تجف مواويله فما زال يغني وهو يبني ويحصد ويسقي ويعشق ويطلب الله ما تيسر من مطر.