أسوأ ما يمكن أن يوصف به أيُّ قطاع أو مهنة هو أن يكون أصحابها يخترقون أخلاقيات تلك المهنة ذاتها!

فعندما يسرق رجل الأمن، أو يكون القاضي غير أمين، أو رجل المرور يخالف قواعد المرور.. تكون الحالة كارثية! وكذا عندما يكون المحامي لا يلتزم بأخلاقيات المهنة، فلا يحفظ أسرار عميله، أو ألا يكون صادقا مخلصا في بيان الوضع القانوني لعميله أو أن يتحوّل إلى انتهازي أو مُبتَز لعميله؛ عندها يكون المحامي خصماً جديدا لذلك المسكين الذي لم يأتِ إلا طلباً للمساعدة!

أذكر ذات مرة - وما أكثر القصص - أن أحدهم شرح لي كيف أن محاميه طلب منه مبلغا مُجحِفاً ليتولى قضيته، إلا أنه لم يكتفِ بذلك - بعد أن دفع المسكين ذلك المبلغ كله مُقدماً - بل استغل ذلك المحامي الفاسد كونَ موكّله تحت ضغط الخصم الشديد وتحت طائلة التوقيف، فأخذ منه توقيعا على رقم خرافي بالملايين، مع أن القضية كلها لم تتجاوز هذا المبلغ! كي يقوم بإخراجه من التوقيف! وآخر يشتكي لي بأن محاميه عندما يأتي لزيارته ويتبادل معه أطراف الحديث العام يتفاجأ آخر الشهر بفاتورة عدد ساعات الخدمة ومتضمنة لتلك الساعة التي لم تكن سوى تبادل أطراف الحديث بالنكتة أو الحديث العام!

وبغض النظر عن هذه القضية وتلك وتفاصيلهما؛ إلا أنهما تشيران إلى مدى التساهل لدى البعض في التخلي عن أخلاقيات المهنة والتزاماتها، خصوصا أنها مهنة رفيعة تسعى في أساسها لإعادة الحقوق لأهلها.

للأسف أن البنية التشريعية عموما لدينا بطيئة جدا، وهذا له أسباب كثيرة من أهمها موقف البعض السلبي من التقنين، بالإضافة لقلة الكوادر القانونية بالبلد بسبب محاربة هذا العلم لفترة طويلة، وإلا فإنه من الواجب أن يكون هناك أمر مضاف للتشريعات والأنظمة وهو تدوين أخلاقيات المهنة في جميع المهن التي يحتاج إليها الناس كالأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن حسب علمي. وبالرغم من وجود نظام المحاماة الذي صدر عام 1422، إلا أن حديثي هنا عن أمرٍ زائد على ذلك. ولم يدعُ إلى هذه الكتابة أن هناك وضعا عاما سلبيا؛ إلا أن وضع المواثيق والقواعد أمر ضروري بنظري.

لم يكن بودّي أن أركّز على مهنة المحاماة التي تحتاج إلى الكثير من التعزيز والتصحيح للوضع القانوني للمحامي أسوة بالدول المتقدمة وامتثالا لدواعي العدل، إلا أن هذا قد يكون في مقال آخر، ووددتُ أن أبدأ بما يهمّ عامة الناس ويحفظ شيئا من حقوقهم، وأترك ما يهمنا نحن المحامين ليُناقش لاحقا.

في أميركا، وتحديدا بعد فضيحة "ووترجيت" الشهيرة، التي انخرط فيها عدد كبير من المحامين الأميركيين؛ تم تشكيل لجنة عُرفت لاحقا بـ(The ABA's Kutak Commission)، وقد أوصت تلك اللجنة بوضع قواعد نموذجية حديثة لأخلاقيات مهنة المحاماة، حيث قامت نقابة المحامين الأميركيين بوضعها عام 1983 (The ABA Model Rules of Professional Conduct)، وعُدّلت مؤخرا في عام 2009، وهي في الأصل مجرد أخلاقيات ومبادئ غير إلزامية، إلا أن جميع الولايات الأميركية اعتمدتها لتكون جزئيا أو كليا إلزامية على ممارسي المهنة.

والحقيقة أن هذه القواعد لم تكن الأولى في الولايات المتحدة، بل كان أول تدوين عام لأخلاقيات مهنة المحاماة هناك في (The Original Canons of Professional Ethics) عام 1908، وقد استفادوا في وضعه من القواعد التي وضعتها ولاية ألاباما عام 1887، وقد مرت تلك القواعد بمراحل عديدة من التعديل والإضافة المستمرة، إلا أن هذا ليس مهما لعرضه. الأمر المهم هو الإشارة إلى مدى تأخرنا في العديد من الأنشطة التشريعية سواء على مستوى الأنظمة أو في مثل هذه المواثيق أو القواعد، حيث نجد أن أول ميثاق أو قواعد في أميركا كانت قبل أكثر من مئة عام! وهذا للأسف يندرج في العديد من القضايا الأخرى التي سبق تناولها في العديد من المقالات الماضية.

الحقيقة أننا نحتاج إلى مثل هذه الأنشطة التشريعية - إن صح التعبير - في العديد من تحركاتنا لإيجاد الحلول، ويمكنني التعبير بأن أقول إن خلف كل سياسي أو إداري ناجح؛ قانونيٌّ يساعده في رسم الحلول على شكل قوانين ولوائح.

تجدر الإشارة إلى أن شؤون المحامين وترتيبها ومراقبتها وكل ما يخصهم يجب أن يوكل إلى جهة مستقلة على شكل هيئة للمحامين السعوديين، ومن أهم ما يجب أن تقوم به؛ هو وضع مثل هذه الأخلاقيات وتدوينها. وهذا، مع وجود اللجنة الوطنية للمحامين بالغرفة التجارية إلا أن سلطتها ووضعها القانوني لا يزالان ضعيفين ولا يخولانها القيام بشيء يُذكر في هذا السياق.