ليس من مصلحة أي حراك إبداعي ألا يواكبه درس نقدي يضع له معيار الاشتغال وأسس البناء ويسلط الضوء على زوايا العتمة أو الجمال في ثناياه، كما أنه ليس من انتماء المبدع لفنه وحرصه عليه وزيادة درايته بأصوله وأساليبه أن يتجاهل المنهج النقدي والبصيرة التي يعمل من خلالها الناقد على كشف مضامين النص ويستكنه ما وراءه ويرصد ملامح التطور في فن هذا المبدع أو ذاك.

والحديث عن النتاج الإبداعي - أيا كان - مرتبط بما يقاربه من فعل نقدي ممنهج يقوّم اعوجاجه ويرافق مسيرته حتى يصل به إلى سدة التفوق، يستوي في ذلك كل ما نعرفه من فنون وآداب خاصة في ظل ما تسجله الأرقام من تزايد في أعداد المبدعين كتابا وشعراء ومسرحيين وتشكيليين وفلكلوريين، بحيث يمكن لنا أن نتوقع ولادة روائي أو شاعر أو تشكيلي أو حتى شاعر شعبي في كل يوم، وهذا يعني أننا أمة تفرغت للإبداع وسمت روحها عن مباشرة واقعها وهمومها وأصبحنا جميعا نفكر وفق مستويات عليا وهذا ما لا يمكن البتة.

إن سقوط المعيار النقدي أو تناسيه عن أي فن من تلكم الفنون هو دخول من باب واسع إلى ساحة الفوضى باسم الإبداع، ولعلنا قرأنا كثيرا من الأعمال الشعرية والسردية في الآونة الأخيرة لا تمتّ إلى ما ادعت بصلة، بل إن جلّها مجرد نسخ متطابقة إما من حكايات خواء من أدوات الفن أو تهويمات نسبت إلى الشعر أو المسرح وهما براء منها براءة مطلقة.

بالطبع نحن لا نقول أن يتحول المبدع إلى ناقد أو يكتب منطلقا من رؤية ناقد، ولا حتى أن يستلهم المنهج النقدي حين الكتابة، فالكتابة حالة خاصة يلجها المبدع ويتسامى عن واقعه، لكنه يكتب موظفا أدواته التي لا مناص من التعرف عليها عبر تواصله مع ما ينتجه الدرس النقدي في مجاله، وإنما يعمل – كما هو معلوم - على قراءة ما يتناول فنه من خلاصات نقدية ونتاجات متعلقة بإبداعه والتطور الذي طرأ عليه تاريخيا وفنيا، فليس صحيحا أن يكتب أحدنا مسرحية دون أن يؤسس لنفسه حيزا علميا وثقافيا عن المسرح وتطوره وأنواعه وطرائق الكتابة فيه وما يمليه بناء الشخوص وما توفره الأدوات المصاحبة للعمل، ناهيك عن تعرفه على ما يمس الإخراج وما يحتاجه المخرج أدائيا ولفظيا.

إن التغافل عن الفضاء النقدي أدى إلى تراكم عدد كبير من النتاجات المنسوبة إلى الإبداع في حين أنها مجرد تسويد للصفحات لا يقدم في مضمار الإبداع الفني خطوة ولا مرتبة مهما عقدت لها الملتقيات الاحتفائية أو أريق من أحبار ترويجية.