يثبت الاستبداد المعولم قدرته على إبداء قدر كبير من التكيف مع المتغيرات المفترض تحققها من ثورات الربيع.. وهو إذ يتلفع بالمرونة كلما وجد نفسه في مأزق من المآزق فإن اعتبار ذلك متغيرا ذا قيمة أو يمكن البناء عليه لإحداث تحول جوهري يؤسس لبناء منظومات عمل حداثية في إطار النظام السياسي لا يعدو أن يكون اجتهاداً بدائيا لدبلوماسية الاستبداد.
وإذا جاز لي النظر إلى مركزية الحكم في بعض الحالات كجذر لمشكلات النظم الأبوية فإن الاستبداد المعولم يحافظ على مقوماته باستخدام المكياج الديمقراطي والسماح بفتح ثقوب صغيرة في قشرة البركان ريثما تتنفس الشعوب ويظل حمم غضبها تحت السيطرة.. وغالباً ما أمدته فكرة المركزية بأسباب حياة وممرات عبور للإفلات من المخاطر المحدقة به.
ولأن مركزية الاستبداد غدت مشكلة ثقافية فإن تأثيرها على البنى السياسية ليس بالأمر الهين، ولهذا نرى انعكاس هذا التأثير على تجاربنا الديمقراطية الناشئة وعلى مخرجات الربيع العربي في غير بلد من البلدان الثائرة.
تتضح آثار المركزية على التجارب الديمقراطية من جوانب عديدة أبرزها هيمنة ثقافة الاستحواذ على استحقاقات المشاركة الشعبية الواسعة في صناعة القرار، بل وتعيد صياغة الخيار الديمقراطي بطريقة تؤدي وظيفة قطعة الإسفنج المخصصة لامتصاص السوائل.. إنها تضع الهياكل الإقصائية بأساليب براغماتية تبدأ بشعارات تشاركية شعبية لكنها تتدرج في الانكماش على نحو ينتهي بها إلى التمثيل الرمزي لذات القيادات التاريخية، سلطة ومعارضة.
المشكلة نفسها تعاود الظهور مع مخرجات الربيع ذات الشبه بموضة الفيلم الهندي في سبعينات القرن الماضي، إذ لا أهمية لمجمل الأحداث التي يتضمنها النص ما دام المخرج معنيا بتوظيفها في نطاق خاتمة مدهشة ومشوقة تزين شخصية البطل وتسوق أداءه الاستثنائي.
وفي حالة كهذه لا مكان يستوعب البطولة الجماعية ولا وجود لأنساق مختلفة تعيد قوى التغيير هندستها عبر لوحة جديدة ذات صلة بموجهات العصر وقيمه وتحدياته.
سوف نسأل..هل نعني شيئاً محددا عند توصيف الحقبة الزمنية الراهنة بمسمى الربيع العربي؟
إن كان ربيعاً حقيقياً فلماذا تتداخل تضاريسه مع خصائص الشتاء.. وكيف يكون ربيعاً ونحن لا نرى على امتداد ساحاته شتلات أخرى أكثر نضارة وأقل ارتباطاً بطبقات الغبار العالق منذ فصول سابقة وسمت بالقحط وندرة العطاء..
عند اعتبار الحالة اليمنية نموذجاً لهيمنة ثقافة المركزية على مجريات الأحداث فلأن هذه الهيمنة تكتسح كل ما يقف أمام نزعة الاستئثار المتفق عليها بين قوى الصراع التقليدي..على أنها تنتهج الهيمنة تعبيرا عن ثقافة ماضوية لها ثوابتها المنتجة أعراض الصراع، وأحسبها ماضية في ممارسة الهيمنة كاستحقاق تمثيل في الحاضر.. لهذا نراها تُؤثر اختزال خصوصيات المجتمعات المحلية والتنوع الجغرافي تبعاً لحاجتها هي دون اعتبار لما يعتمل حولها من أولويات شعبية.. والمرجح استماتتها في سبيل إنتاج شكل من أشكال الهندسة الوراثية للحوار الوطني اليمني الذي تنم مقدمات التحضير له عن ميول الأغلبيات الصراعية في الماضي، لتحويل قضية الحوار إلى وسيلة ميكافيلية ترتكز غاياتها على مصادرة الآمال والتطلعات المستقبلية التي تهجس في أذهان الأغلبية الصامتة والأقليات الحزبية أو بالأحرى الأحزاب المعزولة عن نفوذ الامتيازات التي أثمرتها محاصصات الماضي..
وإذ لا جدوى من إثارة الحديث عن نهج الاستحواذ على استحقاقات الربيع اليمني بما هو أمر واقع إلا أن ثمة فرصة ما تزال متاحة أمام مكاشفات موضوعية من شأنها المساعدة في تدارك عملية الزحف - غير المقدس – نحو استحقاقات الحوار الوطني المستقبلية المتوخاة من يمن يتسع الأفكار قبل الأعداد ويشكل – حال خلوه من كوابح المصادرة والإلغاء – أهم وأنبل عمليات الوفاق الوطني التي نعدها أهم من التوافقات الحزبية.
وفي تقديرنا، أن الحوار الذي يبدأ غامضاً - في إجراءات التحضير له، مبهما في انتقائية قياداته الفنية، ملتبساً في معايير التمثيل ولا يتم الترتيب لفعالياته بشفافية كافية - ربما حقق بعض أهداف ومصالح القوى السياسية المسؤولة عن ممهداته لكنه – ودائما ما نقول إن النتائج رهن مقدماتها – لن يضيف شيئا غير معلوم في واقع اليمن المعاش.!!
إلى ذلك تلوح في الأفق مؤشرات مفادها أن اليمن بمجتمعاتها المحلية ونخبها السياسية ستدعى للمشاركة في هذا الحوار على نحو يعكس صراع الاستقواء بالقطعان آلية التوجيه والتوجه، ومعنى ذلك استنساخ ثقافة المركزية الاستبدادية، أقصد نظام الاستدعاء إلى بيت الطاعة.
كان النظام السابق بارعاً في صناعة الأزمات وتوجيهها ضد بعضها، وها نحن نطور درس الاستبداد ونستدعي المشكلات من كل حدب وصوب لتواجه بعضها، فيما يكون المخرج قد حدد موضوعات المشهد ومخرجات الحوار سلفاً.
حاجة اليمن تتطلب تفكيك المشكلات ومعالجتها بطريقة مختلفة تلبي تطلعات الناس وتساعد على تمكين الخصوصيات التاريخية والجيوسياسية من تقرير خياراتها والتعبير عن خصوصياتها في نطاق مؤتمرات محلية يصغي مؤتمر الحوار إلى صوتها أولا، ثم يتداول الأمر وتتلاقح الأفكار والمشاريع والتوجهات ويحدث التواشج والمقاربات الرئوية بين المختلف والمؤتلف..
على أن الذي يستعصي فهمه تولي طرفي الصراع التقليدي مسؤولية التحضير للحوار الوطني دون التأكد من قدرتهما على إنجاز حوار ثنائي ينهي خلافاتهما المتنامية داخل حكومة الوفاق، ويزيل آثارها السلبية الضاربة أطنابها في مصالح المجتمع، إن لم تكن مصدر أرق عميق يتهدد حياته ويقوض أمنه واستقراره.
بيد أني لا أستبعد أن تكون إجراءات التحضير منصبة على تصميم سيناريو فشل يتفق على تحميل المجتمع نتائجه!