في رحلة استغرقت 50 دقيقة على متن العبارة السريعة "جازان"، أبحرنا باتجاه فرسان ومنها انطلقنا لوجهتنا التالية جزيرة قُمَّاح، أقرب جزيرة سعودية مأهولة لخط الملاحة الدولي بالبحر الأحمر ، على قارب صيد يعرف بـ "الفلوكة" دعانا "جعفر نسيب" أحد سكان قماح لمرافقته واثنين من أبنائه في رحلة أخرى استغرقت نصف ساعة من فرسان.

"أتْعَبنا البحر" جملة قالها الطفل حسن بن جعفر لفريق "الوطن" حين نظر لفرسان التي كانت تختفي شيئاً فشيئاً خلف الأمواج المتلاطمة في عرض البحر، ولم يكن من خيار نملكه سوى المواصلة حين بدأت الأمواج تحد من انطلاق القارب وتقذف به في الهواء لنجد أنفسنا في عمق المعاناة التي يتكبدها أهالي قماح يومياً في مواجهة حياة البحر، وبانتهاء الدقائق العشر الأولى على إبحارنا أطلت من بعيد سواحل الجزيرة من بين أمواج التعب والخوف.

منازل خشبية

رغم شوقنا لاكتشاف هذه الجزيرة، إلا أن خطواتنا الأولى على الساحل كانت تتثاقل لصدمتنا بما وقعت عليه أبصارنا من منازل خشبيه تشبه إلى حد كبير أكواخ الصياديين الموقتة، لكنها لم تكن غير منازل مواطني قماح البالغ عددهم 600 نسمة المبنية من صبرهم وأغصان أرواحهم تظلهم من شمس الشقاء، وسيارات متهالكة أكلها "الصدأ" لكنها وفية رغم تهالكها، وواقع يعلم الإنسان معنى الكفاح وحجم التحدي الذي يعيشه المواطنون لإبقاء جزيرتهم على قيد الحياة.

وأمام هذه التفاصيل الموغلة في الألم كانت تقاسيم وجوه من التقيناهم داخل أكواخهم الخشبية تحكي تمسكهم بالصبر أمام الزمن، الذي جعل الطاعن في السن أحمد محمد حمق يضع يديه على عينيه التي فقدتا جزءا كبيرا من حاسة الإبصار بفعل مياه زرقاء لكنها لا تشبه مياه البحر الزرقاء، وعلى الرغم من حياتهم المفتقرة للحياة إلا أن أرواحهم تشع بالرضا والتأقلم مع ما فرضته عليهم قماح، يقول حسن نسيب: "على هذه الجزيرة ولدنا وعلينا أن نرضى بها لكننا نعاني كثيرا من عدم توفر ضروريات الحياة ليس لنا بل لأطفالنا".

البحث عن الماء

تتجه أسر قماح لخزانات المياه التي تبرع بها عدد من المحسنين لكنها وكما أفاد شيخ قماح حسن نسيب، لم تدم غير فترة بسيطة لعدم تعهدها بالتعبئة فأهملت حتى تبنتها مديرية المياه بجازان، واليوم تصطف على الساحل كأول المستقبلين لزائري الجزيرة وشاهداً على قصة بحثهم عن الماء في الماء، 10 خزانات صغيرة بالقرب من الأثر التاريخي المعروف بـ "بيت الجرمل" مازالت عنوانا للأمل، بقيام مشروع مســتديم يضمن لهم الماء الصالح للشرب حيث يقف على الجانب الأيمن من الشاطئ مشروع للتحلية ينقل المياه من فرسان إلى الجزيرة وحتى انتهاء هذا المشروع، أكد لنا الأهالي أنهم يقــومون حاليا بتوفير المياه الصـــالحة للشرب عبر جلبها من محطــة تحلية فرسان عندما تسوء الأحوال الجوية وينقطع عنهم الماء.

الجسر ليس معجزة

مواطنو جزيرة قماح أكدوا كذلك على أن أهم توصية ستمكنهم من الخروج السريع من واقع معاناتهم الذي استمر على مدى أجيال عاشت ورحلت هي وصية تشييد جسر يربط فرسان بقماح من أقرب نقطة بين الجزيرتين البالغة 3,6 كيلومترات وبعمق يتراوح بين 5 ـ 7 أمتار، وهو ما أثبتته الوثيقة، وناشد الأهالي أمير منطقة جازان بتوجيه الجهات المختصة لتنفيذ الجسر بين فرسان وقماح، واستعد شيخ قماح أنه يقف وسيقف معهم لإنهاء جميع المشاكل وحريص على إيصال الخدمات للجزيرة وأهمها الجسر الذي لا يتجاوز طوله 4 كيلو مترات.

إزالة الأكواخ

التفاتة من المؤسسات الخيرية لإنشاء وحدات سكنية تقينا من الخوف وتحمينا من رياح الألم؛ هذا ما طالب به أهالي قماح الذين استنكروا تصرفات بعض الجهات الحكومية في إزالتها لأجزاء من منازلهم، يقول أحد مواطني الجزيرة: "تلك الجهات الحكومية لم تسمح لنا بتملك منازلنا، بل قامت بإزالة أجزاء منها على الرغم من أن اللجنة التي شكلت لدراسة وضعنا أوصت ببقائنا وأن تصبح جزيرة قماح مركزا حضريا"، وأكد عدد من الأهالي على أهمية بقائهم في الجزيرة باعتبارها حدودية، وأن القيادة الرشيدة تحرص وتوجه دائما على بقاء المواطنين في القرى والمواقع الحدودية.

الموقع والتاريخ

كانت الجزيرة مركزاً لتجمع سفن الغوص وصيد اللؤلؤ الشـراعية، وأدرك الألمان عام 1901 أهمية موقع قماح الاستراتيجي فقاموا ببناء مستودع حجري لتخزين الفحم الحجري يزود السفن العابرة للممر الدولي في البحر الأحمر، لكن المستودع لم يكتمل بناؤه لظروف الحرب العالمية الأولى، وتعود تسميته بـ"بيت الجرمل" إلى تلك الحقبة التاريخية وهو ما بينه الأديب إبراهيم مفتـــاح الذي يحتفـــظ في منزله بمجموعة من الآثار التي تؤكد البعد التاريخي لفرسان وجزرها التي حـوت آثارا لحضارات إنسانية قديمة.

مشاريع تحت الدراسة

وعن مطالبة أهالي قماح ببناء جسر يربطهم بفرسان، أكد محافظ فرسان عبدالرحمن عبدالحق، أن آخر اجتماع كان في الديوان الملكي بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين، ناقش موضوع بقاء الأهالي في جزيرة قماح ومشروع الجسر الذي مازال تحت الدراسة.

وعن الكهرباء في الجزيرة أوضح محافظ فرسان أنه تمت مطالبة شركة الكهرباء منذ 5 سنوات ولم تنفذ شيئا حتى الآن، مبيناً أن خطاباً أرسل من الكهرباء أخيرا يفيد بعزمها على إيصال الكهرباء لقماح ضمن خطتها للسنة القادمة، مشيراً إلى أن الأهالي يعانون من انقطاع الكهرباء المتكرر لعدم وصول وقود الديزل، واصفاً ذلك بالمشكلة التي أرقت المواطنين كثيراً. وقال محافظ فرسان إن التوجيهات بخصوص أعمال الإزالة التي تعرض لها بعض مواطني قماح واضحة، مبيناً أن أي شخص لديه تظلم فعليه التقدم للجهات المختصة، كما وجه عبدالحق دعوة للاتصالات السعودية بحل إشكالية ضعف الاتصال بجزيرتي قماح وفرسان، واصفاً تقاعسها عن تحسين مستوى الاتصالات بحجة الكيبل البحري بالأمر المؤسف، لاسيما أن الدولة تسعى لتطبيق الحكومة الإلكترونية ولأن جزيرة قماح حدودية تحتاج بشكل عاجل لإيصال هذه الخدمة.

ومن جانبه، أوضح مدير عام المياه بمنطقة جازان المهندس حمزة القناعي، أن المديرية نفذت مشروع محطة تحلية خاصة بقماح، وسيتم الانتهاء منه خلال الأسابيع القادمة، مؤكداً أن مياه الشرب تصل إلى سكان قماح عن طريق مشروع السقيا، مشيراً إلى أنه قد يتأخر وصول السقيا في بعض الأحيان وهو أمر خارج عن إرادة البشر للظروف الطبيعية للبحر.


لجنة أوصت بتقديم الخدمات للأهالي منذ 7 أعوام دون تفعيل


يمتلك أهالي قماح وثيقة رسمية صدرت قبل 7 أعوام تقترح اللجنة المشكلة تنفيذ توصيات لتوفير الخدمات التي تحتاجها جزيرة قماح من إنشاء برج اتصالات كونها جزيرة حدودية، وإيصال التيار الكهربائي، وإيجاد مصدر ثابت لمياه الشرب، وبناء رصيف للصيادين والركاب، وإيجاد مكتب للخدمات البلدية يقوم بأعمال النظافة وتخطيط الشوارع، لكن هذه الـتوصيات حضرت على ورق تلك اللجنة وسجلت غيابا بلغ 7 أعوام، كما قال شيخ قـماح الذي تساءل عن أسباب غياب التوصيات حتى الآن.





الخوف من المرض


بين منازلهم وأكواخهم الخشبية تجولنا، واستقبلتنا أكثر من أسرة كان الحرمان مسيطراً على كل ما حولهم من تفاصيل المكان والإنسان، أطفال يساعدون أمهاتهم في "شرح" سمك السيجان وتجفيفه ومن ثم بيعه لنستقل بعدها دباب الطفل عبدالرحمن جعفر للذهاب إلى مدرسة قماح الابتدائية فوجدناها مقامة من "بركسات" ولعلها أسهل الحلول لإيجاد مدرسة في تلك الظروف التي لم تسلم من قسوتها الدوائر الحكومية، إضافة إلى عدم توفر الخدمة الصحية في أدنى مستوياتها، فقد فاجأ الأهالي فريق "الوطن" أنهم يعانون ويخافون كثيرا حين يمرضون ويمرض أطفالهم فلا مركز للرعاية الصحية الأولية على جزيرة قماح، ويقول شيخ قماح: "منذ 32 عاماً وأنا أطالب فلم نحصل إلا على زيادة الرحلات الصحية إلى أسبوعين، مضيفاً أنه تعب ومل من مراجعة الشؤون الصحية بجازان التي تعتذر عن إقامة مركز الرعاية الصحية لعدم توفر الكهرباء على الجزيرة.

3 سيارات متهالكة


لا توجد في قماح سوى ثلاث سيارات اختفت معالمها وحين تقترب منها تدرك حجم ما فعله الزمن بها وما تركه منها لأصحابها، وتلك السيارات وصلت للجزيرة باستخدام طريقة محفوفة بالمخاطر الجسيمة كما أفادنا جعفر نسيب بقوله: "تعرضت لـحادث كاد أن يودي بحياتي عندما قمت بتحميل سيارتي المحملة بالمؤن والمواد الغذائية فوق قاربين لم يصمدا أمام ثقل الـسيارة فانزلقت في المياه.

وأضاف نسيب قام أهالي قماح أخيرا بالاستعاضة عن الـسيارات بشراء الدبابات ونقلها للجزيرة.