تجربتي في التعليم هي أعمق وأهم تجربة في حياتي. رغم قصرها، ثمان سنوات، إلا أنها كانت مكثّفة ومحفّزة. باختصار كان الانضمام يوميا إلى جماعة كبيرة من البشر للتعلم وتبادل الأفكار تجربة استثنائية. منذ طفولتي كان لدي ملل مرعب من أحاديث المجتمع العامة التي لا تتجاوز الوعظ والقصص المتوارثة أو الثرثرة التي تعكس الفراغ العام أكثر من أي شيء آخر. الآن أنا أمام إمكان جديد، أمام فرصة أخرى، أمام فضاء عام يمكن أن يصبح فضاء حقيقيا. لم نكن في الصف محتاجين لأيديولوجيا من الخارج لتحرك تفكيرنا بقدر ما كنا بحاجة للتحرر من التقليد والعودة قليلا لأنفسنا. على سبيل المثال، بالنسبة للطالب، ومن خلال الخطاب العام في المجتمع يبدو له الحي الذي يعيش فيه أو المدينة التي يقطنها أنها ليست له، لم تصمم له ولم يكن هو الهدف لها. يبدأ الطالب في التفكير فيما حوله كغريب، لا يعني له المكان إلا بقدر ما يعني لأهله. بمعنى آخر ينظر الطالب للعالم من حوله بعين أخرى غير عينه. من المعتاد في مدارسنا أن يكتب أحد المعلمين كلمة الطلاب في الحفل الختامي. في الحفل يلقي أحد الطلاب الكلمة ليقول ما يراه المعلم. مع كل حرف في الكلمة المعلنة للملأ يطمس الطالب وجوده ويعلن اختفاءه، ولذا فإن أكبر الغائبين عن الحفل المدرسي هم الطلاب رغم اكتظاظ المكان، فيزيائيا، بهم. ذات الشيء يحدث في نظرة الطالب للحارة، للحي، للمدينة، للوطن، للعالم. في إجابته الأولى عما حوله لا يحضر في باله ما يريده هو، بل ما يريده الآخرون، ولذا حين يردد الطالب الصوت الجماعي يغيب عن صوته أنه يريد ملعبا وحديقة في حيّه. يغيب عن صوته غياب أماكن الترفيه والرياضة، يغيب عنه الشكوى من أذى المدرسة وقذارة المبنى وضعف التكييف وانحسارات الخيارات أمامه، يغيب عنه غياب صوته الحقيقي.

كان الصف الدراسي بالنسبة لي فضاء آخر، بمعنى أنه الفضاء الوحيد العام الذي أعرفه والذي يمكن أن أجتمع فيه مع أفراد من المجتمع للحديث حول قضايا جادة، نتحاور، نختلف، يشتد النقاش أحيانا ولكننا في الأخير نعلن وجودا حقيقيا ينقذنا من الذوبان في الفراغ في الخارج. كان من أبهج المشاهد في حياتي حين ينخرط اثنان أو أكثر من الطلاب في نقاش جاد حول قضية تهمهم، نقاش يحضرون فيه ككائنات عاقلة تحترم بعضها وتستخدم عقولها للتفكير والإقناع. برأيي أن هذه الشخصية أقدر من غيرها على العيش والحرية والسعادة. كان هذا الفضاء دواء لسأم الخارج وفراغه. الشرط الأساسي الوحيد لفصل بهذه المواصفات هو الحرية. المعلم باعتباره صاحب "السلطة" الأعلى في الصف مسؤول قبل غيره عن إفساح المجال لهذه الحرية وحمايتها من نفسه ومن الآخرين. حين تتوفر الحرية يعمّ الأمان ويبدأ البشر في ممارسة بشريتهم.

الثماني السنوات كانت حبلى بالفشل والأخطاء أيضا. فشلي في زرع الأمان في الصف في كثير من الأحيان، وبالتالي الفشل في التعرف على الكثير من الطلاب، وربما تعرّفهم عليّ أيضا. فشلي في حماية طلابي من الأذى الجسدي والمعنوي. فشلي في الدفاع عن أحد الطلاب في متوسطة تربة حين تم اكتشافه وهو يدخن فعاقبه المدير بالجلد حتى فقد الإحساس بالضرب. فشلي في مساعدة الطلاب لحل مشاكلهم الأسرية. عجزي عن مساعدة طلابي الفقراء لا يزال يقلق حياتي. فشلي في إيقاف مسلسل الجلد بعد الصلاة للطلاب لا يزال يؤلمني. إخفاقي في إعطاء وقت أكبر للحوار، عدم شعوري بمدى سلطتي كمعلم حين أختلف مع طلابي، إصراري على الفوز في النقاش معهم أحيانا.. الخ..

باختصار، يمكن أن أقرأ قصتي في التعليم كحكاية من الفشل. الأكيد أنه كان بإمكاني فعل المزيد، كان بإمكاني إسعاد طلابي أكثر، وتوفير الأمان لهم أكثر ومساعدتهم على مواجهة العالم كما ساعدوني على مواجهته. علاقتي مع زملائي المعلمين كانت أيضا محطة للكثير من الفشل، الفشل في التواصل والصفح والصبر ومحاولة الفهم.

لكن في النهاية كانت هذه الرحلة مع التعليم رحلة من أجل التحرر. كان بالإمكان أن تكون رحلة للمزيد من الانغلاق والانزلاق في الوجود الزائف. من السهل على الفرد أن ينخرط في آلة نظام التعليم الروتينية الكبيرة ويفقد الشعور بمعنى ما يعمل، أي أن يتحول إلى ترس بلا إرادة في آلة قادرة على التهام الجميع.

إن كان لي من معين أول في هذه الرحلة فهو الانفتاح على الفكر الإنساني. القراءة في الفلسفة والفكر والأدب من مختلف الثقافات والعصور كان رافدا يوميا للممكن والمختلف والجديد والمغاير. كانت القراءة بالنسبة لي تحريرا من شرط الزمان والمكان الذي أعيشه، كانت أيضا أملا متدفقا، فهي تستحضر مختلف التجارب البشرية لتضعها أمامك وحينها تصبح تجربتك حلقة في مسلسل طويل من التجارب. حلقة في عالم من النجاحات والإخفاقات. القراءة أمان من الوحدة، فهي تحيطك بالكثير من البشر. القراءة صوت لك حين يختفي صوتك. القراءة تهمس في أذنك بحنان في لحظات انكساراتك وألمك، تقول لك بكل ثقة هناك آخرون معك، هنا ما يصدّق بك ويؤمن بك ويثق فيك ويضع يده في يدك. القراءة في الفكر الإنساني توفّر صوتا جديدا في الصف الدراسي، توفر اختلافا وتنوعا لعقول يكاد يقتلها التكرار والتلقين. القراءة في الأفكار والآداب المختلفة باب للحرية، باب لكسر قيود التربية والمنع والترهيب وحجب الرؤية، القراءة هي همس يومي في أذنك يقول لك نعم إن التغيير ممكن في فضاء كامل من الإحباط، القراءة تحفيز يومي للتواصل الإنساني، وما التعليم في نهاية مطافه إلا هذا التواصل الآمن بين كائنات تتوق للحرية.