تشغلنا الحياة بأحداثها التي تغرقنا أحيانا، وأحيانا أخرى ترتقي بنا، وقد نكون من المحظوظين عندما نتوقف لفترة كافية تسمح لتلك الآلة العقلية بأن تعمل ولو على استحياء، نكتشف حينها بأن لدينا فكرا واختيارا وإرادة. ولكن هل لدينا البصيرة؟ هل لدينا القدرة على دراسة وتحليل كل ما يجري من حولنا ومن ثم الربط؟ قد نفكر ولكن هل هذا التفكير نتاج عمليات عقلية من داخلنا أم فرضت علينا من جهة ما نتبعها ونسمح لها بأن تعطل لدينا لغة الفكر والمنطق؟ وقد نختار ولكن كيف نتأكد أن اختيارنا هو الأصح والأفضل؟ من يضمن لنا أن ما اخترناه لم يكن بناء على خبرات شخصية ومعلومات محدودة قد تكون غالبيتها أتت من جهة واحدة فقط؟ فنتحرك مؤمنين بأن كل ما نفعله هو بإرادتنا، نساند، نقاطع، نهاجم.. والنتيجة نتفرق!

وكل ذلك لماذا؟ لأننا لا نوسع رقعة تركيزنا. "الآن" هو المركز، وعليه يتم البناء! كيف ومتى ولماذا ومنذ متى، لا يهم! لا نريد أن نشغل تفكيرنا بهذه الإشارة العظيمة (؟) مجرد إشارة لكنها ذهنيا وفعليا حركت مدارس في الفكر والمنطق بل في كافة مجالات العلوم الإنسانية والطبيعية! كيف نتوقع أن تأتينا البصيرة ونحن لم نشحن البطارية، معلوماتنا محدودة بل تكاد تكون معدومة، نعم إن كانت تعتمد على عقلية لا تبحث ولا تشك ولا تتساءل فهي محدودة، وإن كانت سجينة حاضر، ملتصقة برقعة معينة مما تشغله من الأرض، فهي محدودة!

لنقم بهذا التمرين معا، ليس صعبا، ولكنه قد يحتاج لبعض من المجهود الفكري، مني ومنكم. سأعرض بعض الحالات بعضها تاريخي وبعضها من صفحات الأدب، والمطلوب هنا أن نجد الرابط ليس لمجرد التحديد ولكن كنقطة للانطلاق لما هو أبعد.. الرؤية؛ الطاقة التي ستدفعنا للبحث والتعمق قد نصل للاستقلالية والفكر والاختيار والإرادة:

في متن وثيقة إعلان الاستقلال للولايات الأميركية المتحدة جاءت هذه الجملة التي تنص على أن "كل الناس قد خلقوا متساوين" وأن لهم حقوقا غير قابلة للتغيير مثل "حق الحياة والحرية والسعي وراء تحقيق السعادة"، "الناس" و"متساوين": للنظر إليهما بتعمق أكثر؛ وضعت من قبل مجموعة من الإقطاعيين أصحاب العبيد! طيب.. لنتحرك قليلا إلى الأمام ونتابع ما جاء في مقالة توماس ديلورنزو من أقوال إبراهام لنكولن "محرر العبيد" حسب ما جاء في مناظرته مع ستيفن دوغلاس في 18 سبتمبر 1858 ؛ حيث أكد على أنه لم يكن لصالح تقديم المساواة بين العرق الأبيض والأسود من الناحية السياسية أو الاجتماعية بأن يجعل منهم ناخبين أو محلفين أو حتى التحصل على مراكز في الدولة، بل أضاف بأنه يوجد خلاف فيسيولوجي بين العرقين يحتم عدم إمكانية معيشة العرقين معا على مستوى واحد من المساواة، بينما يمكن وجودهم معا ولكن يبقى هنالك فرق بين من هو الأعلى ومن هو الأدنى!

لنعد إلى ما قد يكون فهمه بعض المسؤولين عندهم لمعنى "كل الناس"، أي ليس فقط على أراضيهم بل يجب أن يمتد نشر حلمهم إلى بقية أنحاء العالم، ونشر مفهوم الحرية والمساواة، حتى ولو كان ذلك بالقوة والاحتلال، تماما كما حدث في الفيلبيين، اعتبروهم قوما لا يعرفون مصلحتهم ويجب التدخل لكي يتم إنقاذهم، والناتج قتل أكثر من 2000.000 فلبيني من أجل أن يدخلو إليهم "الحرية والمساواة"! تماما كما فعلوا في دول أخرى فيما بعد ولن أعدد، ولكن سأذكر ما جاء في أقوال بيتر أرنت مراسل "سي إن إن" أيام غزو العراق، الذي لن أتحدث هنا عن مواقفه وتقاريره هناك، بل سأذهب إلى أبعد من ذلك، إلى تقاريره عن حرب فيتنام، حينما كان مراسلا لوكالة أنباء أسوشيتد برس، حيث أُتهم بعدم الوطنية لأنه ذكر حديث أحد العسكريين الكبار الذي قال له قبل الهجوم على إحدى المدن الفيتنامية: "إنه أصبح من الضروري تدمير بلدة لإنقاذها"! أي القصف بغض النظر عن الخسائر في صفوف المدنيين، ناهيك عن البنى التحتية أو أي معالم تاريخية لتلك المدينة! ألا يذكرنا ذلك بأحداث قريبة؟

لا أدري عنكم ولكن بالنسبة لي بدأت أفهم معنى "كل الناس" و"الحرية والمساواة"، الجماعة يريدون الخير للبشرية، ليس حسب مفهومنا نحن بل حسبما ما يريدونه هم أن يكون مفهوما لدينا، تماما كما جاء في رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أوريل 1940 حيث أوضح الفكرة السائدة عند أصحاب النفوذ بأن: "كل الناس خلقوا متساوين، ولكن بعضهم أكثر مساواة من غيرهم"!

لا أدري عنكم، بعد هذا البحث، قررت أن أعود لمشاغل الحياة، لا بل سأستمع لأغنية الأطفال للراحل محمد ضياء الدين "كلب وقطة وديك وبطة"، ماذا؟ وهل هي الأخرى تتحدث عن العدالة والمساواة؟! إذن غيرت رأيي، بما أن فيها أيضا ما سيجعلني أفكر، وأنا لا أريد أن أفكر!