في نقده لمشروع الحداثة الغربية، عبر دانيل بيل بأن الحداثة الغربية قد وصلت إلى منتهاها، مثبتاً سيرورة التاريخ وتقدمه، ونافياً أن تكون الحداثة هي نهاية المطاف، ليدشن كثير من المفكرين الغربيين عصر "ما بعد الحداثة" والذي يأتي على أصول الحداثة لينقدها ويفككها ويقوض أركانها..
كان قدرنا في العالم العربي والإسلامي أن نعيش في هذا العصر الذي أصبحنا فيه صدى لأفكار غيرنا، إلا أن صدى الأفكار لا يأتي إلينا ولا نسمعه إلا حين يخفت في منطلقه الأصلي، فما إن يصلنا ونتحمس له حتى نكتشف ان الذين تحمسوا له فترة من الزمن أخذوا يتلفتون إلى ما بعده لأنه لم يحقق لهم الغايات التي ينشدونها.
إننا لو أخذنا الولايات المتحدة مثالاً على ذلك لوجدنا أصواتاً من داخلها تنادي بعصر"ما بعد الديمقراطية"، تماماً كما حدث في الحداثة وما بعدها، لأن القضية بسهولة تكمن في الانكشاف على مشكلات المصطلح مفهوماً وتطبيقاً، ولأن التلميع الإعلامي، والتبشير المدعوم من قوى الإعلام العالمي، وقبول الكثير من الأمم لهذا المبدأ لم ينفع في هذا الانكشاف على القصور، ولهذا يصرح براون، عالم السياسة والقانون الأمريكي والمتخصص في صياغة الدستورفي جامعة جورج واشنطن، قبل أيام في لقاء تلفزيوني: بأن الديمقراطية في أمريكا ليست هي الديمقراطية المذكورة في الدستور الأمريكي، وليست هي الديمقراطية التي كانت حلماً يراود الأمريكان، لأن مفهومها في أصله يقوم على اعتبار الحرية الفردية في الاختيار، ولكنها تحولت إلى "ديمقراطية أحزاب"، فأصبحت لا تعبر عن ضمير وتطلعات المواطن البسيط، بل تعبر عن تطلعات الأحزاب التي تتمحور حول "أيديولوجياتها" ومصالحها الخاصة حتى لو كانت على حساب الفرد والمجتمع، والتي كانت طريقاً مفترضاً لتحقيق العدالة في المجتمع، فإذا بمرشحي الأحزاب والجماهير يحققون مصالحهم وذاتهم ويعبرون عن أفكارهم ومبادئهم أكثر من تعبيرهم عن من أوصلوهم إلى كراسي الحكم أو المجالس النيابية والبرلمانية.
إن هذا الحضور لفكرة "ما بعد الديمقراطية"، والتي يثبت أصحابها انتهاء عصر "الحكايات الكبرى"، التي تنقل السيادة من الأحزاب والترشيح إلى مؤسسات المجتمع المدني لتثبت بأن تعميم الأفكار الخاصة وقولبتها والتبشير بها وترحيلها ومحاولة أقلمتها في بيئات مع محاولة استنبات فضاء موضوعي مغاير لها لا يصلح لطبيعة الحراك البشري والتغير الاجتماعي والمدني لكافة المجتمعات البشرية، وأن فكرة "النهايات" فكرة لا تصمد لصيرورة الزمان وتحولاته، وهذا يفضي إلى القناعة بضرورة خلق البيئات والنظريات الخاصة التي تراعي ظروف الواقع وطبيعته أكثر من استخدام النماذج الناجزة.
إن التجديد هو روح الحياة الدافقة، وتطوير النظم والقوانين هو الذي يدفع إلى التقدم والرخاء، وسرعة التغيرات تجعله من باب الضرورات، ولكن أهميته لا تعني تعطيل العقل عن إبداع النموذج الخاص، دون القطيعة التامة مع التجارب البشرية، شريطة أن يكون هناك اشتراطات لهذا التلاقح والتبادل الحضاري، وأهم ذلك مراعاة الفروقات الحضارية والثقافية بين المجتمعات، وعدم إغفال السياقات الخاصة في تكون المجتمعات وتطورها، وهذا يعني إمكانية الإبداع والتجديد على غير نموذج سابق حتى في المجال السياسي والاجتماعي، فإن كانت الغايات ظاهرة في تحقيق العدالة، وتقليل الفساد ودفع التنمية والحفاظ على المكونات الأساسية، فإن الوسائل يمكن أن تبتدع بما يحقق المقصود الأسمى والذي ينبع من طبيعة المجتمع وظروفه وثقافته وخصوصيته التي تميزه عن غيره.
كما أن استشراف مستقبل الأفكار السياسية والاجتماعية يعين الحريص على التجديد دون أن يجعله يشترط السير على خطى الحضارات الغالبة، والأمثلة أمامنا في التاريخ والواقع كثيرة في بروز مجتمعات في مجالات الصحة والتعليم والتقنية وغيرها وتفوقها وإبداعها حتى بزت الدول العظمى وتقدمت عليها، وهذا يعني إمكان التقدم الذاتي بعيداً عن التقليد والتبعية والاستلاب الحضاري.