يروى، والعهدة هنا على الراوي، أن مجموعة من الباحثين في علم الاجتماع، أجروا تجربة على مجموعة من القردة، للتأكد من كيفية تشكل الأعراف في المجتمعات، وأنه ليس من الضروري أن من يتمسك بالأعراف الاجتماعية، يعلم لماذا يتمسك بها أو لماذا يدافع عنها؟ أو لماذا يقاتل أو حتى يموت من أجلها؟ فالعرف في لغة مبسطة، هو ما تم التعارف عليه من سلوك ما، بأنه حميد أو غير حميد، من قبل جماعة ما في مكان ما، في زمن ما، لجلب خير ما لهم، أو لدفع ضرر ما عنهم. إذاً فقيمة العرف تأتي من قبل تعارف جمعي خاص عليه. أي ليس للعرف معيار موضوعي محدد نستطيع من خلاله تحديد إيجابياته أو سلبياته، بدون معرفة ظروف وأسباب نشأته، التي أدت لتعارف جماعة عليه، وجعلته مجال تعارف أو إنكار من قبلها.

حيث أحضر الباحثون خمسة قردة ووضعوها في قفص، يسمح لها بالتحرك والقفز عالياً وتم تزويد القفص بسلم جانبي، لمن أراد تسلق السلالم من بني القردة. ووضعوا القفص في مكان بارد، مفتوح. وأخذت القردة تتحرك وتقفز وتصعد السلم الجانبي، وتتعرف على مكان سكناها الجديد. فقام الباحثون، بربط علب موز وجعلوه يتدلى من فوق السلم. فهب أسرع القردة حركة وإدماناً على الموز، وصعد السلم سريعاً ليحظى بعلب الموز، قبل غيره من إخوانه وأخواته القردة. وعندما وصل آخر درجات السلم، وأصبح علب الموز في متناول يده المطاطية، مد يده لقطفه؛ ففوجئ بما بارد يهطل عليه وعلى من في القفص من قردة، كأنه سيل عرمرم هطل من محيط متجمد جنوبي أو شمالي.

فتجمد كل قرد في مكانه يرتعد من شدة البرودة التي تكالبت عليه من الجو البارد والماء الأبرد. وبعد أن نشفت أجساد القردة المبتلة بالماء البارد، وأخذت تستعيد شيئا من دفئها وراحت تتحرك في القفص جيئة وروحة، نظر أحد القردة لعلب الموز وسال لعابه عليه؛ معتقدا أن القرد الذي سبقه في محاولة الحصول عليه، ما هو إلا قرد أخرق، تنقصه المهارات "القردية" الأصيلة، فصعد مسرعاً السلم، ووصل لأعلاه ومد يده لاقتطاف علب الموز الشهي؛ فهطل الماء عليه وعلى من معه من رفاق القفص، فرجعت القردة كلها تعاني لوعة البرد المتكالبة عليهم من الطقس وزادته برودة الماء بلة وتجميدا.

ويبدو أن بني القردة لا يؤمنون بالمثل القائل "شر الناس من اتعظ بنفسه" فأخذ قرد ثالث وكرر المحاولة، ليجرب حظه بنيل علب الموز المسيل للعاب، وتكرر معه الحظ العاثر؛ فهطل الماء البارد عليه وعلى من معه. وحاول الرابع والخامس، ولم يكونا بأحسن مهارة ولا حظاً من سابقيهم.

هنا أصبحت المشكلة بالنسبة للقردة، مشكلة جماعية لا فردية، وأيقنوا أن لا أحد منهم تسعفه حركاته ومهاراته "القردية" على الحصول على علب الموز الشهي. فقررت القردة منع أي منها من أن يكرر العبث بمعاودة محاولة الحصول على علب الموز العصي على التناول، مهما كان مغريا، ومنظره شهيا لا يقاوم؛ ما دام المكسب هو ماء بارد سترتعد من شدته فرائص وأسنان القردة و"شفائفها" المتهدلة.

وبدأت القردة تمنع أيا منها من الصعود للسلم، وإذا عاود أحدهم المحاولة ضربته البقية منها ضرباً مبرحاً. وتم ضرب أكثر من قرد منها، ممن سولت لهم أنفسهم وابتغت هواها، من دون اكتراث للمصير القارس الذي سيحيق بهم جميعاً بدون استثناء. وبعد فترة، اقتنعت جميع القردة بعدم سلامة صعود السلم أو الاقتراب منه؛ وأصبح هذا عرفاً بينهم، حيث لا وجوب لشرح أسبابه.

وبعد فترة قام الباحثون بإخراج واحد من القردة الخمسة واستبدلوه بآخر. فما إن دخل القرد الجديد القفص، وقبل أن يسلم على من فيه؛ لم يصدق نفسه حيث شاهد علب الموز الشهي يتدلى، وما يفصله عنه إلا سلم، ليس بصعب على طفل آدمي تسلقه، ناهيك عن قرد متمرس مثله. فشمر عن ذراعيه ومسك بقضبان السلم لتسلقه ليحظى بعلب الموز، الذي تنازل له عنه بقية القردة، بكرم منقطع النظير، بالنسبة لبني القردة. وقبل أن يهم بالصعود؛ مسكته بقية القردة ومنعته من ذلك، فاستغرب من هذا التصرف الخارج عن سلوكيات القردة، ولم يصدق نفسه؛ فكرر التجربة ثانية، فأمسكت به القردة وضربته ضرباً موجعاً. حاول ثالثة وتم ضربه من قبل القردة ضرباً أكثر شراسة وإيلاماً.

وهنا استسلم القرد، واكتفى، كبقية القردة، بالنظر لعلب الموز من بعيد. وتم إخراج قرد ثانٍ من القردة الأصلية، وأدخل عليها قرد آخر جديد؛ فحاول مثل ما حاول سابقه، وتم ضربه ضرباً مبرحاً من بقية القردة، وشاركهم بالضرب القرد الذي دخل فقط قبله بقليل. ثم تمّ إخراج قرد ثالث من القردة القديمة، وأدخل مكانه قرد جديد؛ فحاول الصعود لعلب الموز وضرب ضرباً لا طاقة لقرد مثله بتحمله، وشارك في ضربة كذلك القردان الجديدان، حتى اقتنع بعدم معاودة المحاولة. وتم إخراج القردين الأصليين المتبقيين من القردة القديمة الواحد تلو الآخر وتم استبدالهما بقردين جديدين. وكل من دخل القفص من القردة الجديدة يحاول لا محالة تسلق السلم للوصول لعلب الموز، فيتم ضربه ضرباً لا يستطيع نسيانه.

وهكذا تم استبدال جميع القردة الخمسة القديمة بالقفص والتي عاصرت هطول الماء البارد مع كل محاولة للوصول لعلب الموز، بخمسة قردة جديدة لم يشهد أي منها كارثة الماء البارد؛ وبالطبع لم يسمع عنها. وتم سحب علب الموز من قبل الباحثين، وأخرج قرد من القفص من القردة الجديدة، وأدخل بدلا عنه قرد أجدّ منه، فحاول الوصول للسلم لتسلقه لا لشيء؛ ولكن فقط لكونه قرد يهوى تسلق الأشجار والسلالم؛ فتم ضربه من قبل بقية القردة الجديدة ضرباً أشد ضراوة وإيلاماً من ضرب القردة القديمة. حيث القردة القديمة، على الأقل، كانت تعرف السبب الذي كانت تضرب من أجله؛ أما القردة الجديدة فأصبح الضرب عندها أكثر قسوة وتوجيعا، حيث هي لا تدري لماذا تضرب؛ وأصبح الضرب عندها هو الغاية والدافع لكل من يقترب من السلم.

وهنا تحول الاقتراب فقط من السلم في عرف بني القردة، إلى محرم يستوجب الضرب والتأديب. وعليه يصعب إقناع القردة في القفص، بأن ما يفعلونه ويتمسكون به هو إيذاء لأنفسهم، ومخالف لفطرتهم. حيث كيف ستقنعهم بأنه كان قديماً هنالك علب موز شهي يتدلى، وكل من حاول الاقتراب منه، يهطل عليه وعلى من في القفص ماء بارد، وكان الوقت آنذاك شتاء قارسا؟!

وهكذا اكتشف باحثو علم الاجتماع الكيفية التي تتشكل بها الأعراف في المجتمعات، كما أثبتوا أن الأعراف الاجتماعية مع مضي الزمن وانقطاعها عن أسباب تشكلها؛ تتحول مع الوقت لأعراف مقدسة، ليس من السهولة التخلي عنها. وهذا مصداق لقوله تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا•أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ". صدق الله العظيم.