الأفكار لغة، واللغة خطاب، وهذا الثالوث الخطر شائك ومعقد لما يمثله من فلسفة الفكر الذي يتبناه الإنسان اليوم، ليس هذا وحسب بل إنه يشكله ويدنيه ويرفعه ويهمشه، وكم من فكر تحول إلى أصنام تُعبد وطرق تُسلك. الأفكار خطرة وذات قوة يتبناها العقل ويلبسها حلة اجتماعية.
إن الفكر بالنسبة للعقل كالروح للجسد، فليس مستغربا أن نجد من جعلوا من الأفكار التي يتلقونها "أصناما حقيقية" تتجسد في حياتهم يسيرون إليها ويمتثلون لها.. لهذا زادت السلبية، والسطحية، والشتات في القيم وتعطل العقل مقابل التبعية لأشخاص بذاتهم وأفكار بذاتها.
هل تتخيل كم كلمة تخترق فكرك في اليوم؟ تستيقظ في الصباح وتستمع للأخبار وتقرأ الصحيفة ثم تذهب للمسجد وللعمل، للمقهى، لأصدقائك وتسمع كل ما يفكر به الآخرون.. كلمات فكر بمخالب حديدية تنهش عقلك دون توقف.
إن الكلمات ليست مجرد أبجدية نتداولها، أنها طاقة كبيرة تحركنا، وتحرك العالم من حولنا، إنها التردد الموجي الحقيقي الشبيه بمؤشر الراديو، والذي نسير ونتحرك من خلاله. الكلمات التي تخترق الفكر تصنعنا وتشكلنا، وعلينا أن نختار ما نسمعه أو نسمعه عبر ومن خلال كينونة وعينا حتى لا نصبح عبيدا للأفكار وتصبح الأفكار أصناما جديدة لإنسان هذا العصر.
يرتبط الأفراد عادة بانتماءات وتحزبات ضيقة على حساب الانتماء الكبير للسلام والخير وقيمهما، لهذا يراوح الكثير داخل أنماط هجينة من الفكر، يجتمع فيها التخلف وقشور الفكر، وفي هذا اجتماع لسلطة الخطاب وسلطة التبعية.
في مقتطف من رائعة طه حسين "الأيام" تحليل معمق للوعي الاجتماعي الذي يعتبر نموذجا نمطيا للمجتمعات العربية اليوم، يقول إن مشعوذين منبثين في المدينة والقرى والريف، لم يكونوا أقل من العلماء الرسميين تأثيرا في دهماء الناس وتسلطا على عقولهم. لقد كان طه حسين صوتا صادقا مطالبا بإطلاق حرية العقل وكسر القوالب الجامدة المتسلطة على الوعي الاجتماعي.
الأفكار لم تعد مجرد أدوات إبداعية يتناولها الكتاب والمؤلفون والشعراء في مادة إبداعهم، بل أصبحت أصناما لمعتنقيها، وانهيار الحضارات قام على هذا الاتباع وتصنيم الأفكار، لدرجة التأليه، وما الحروب الكبيرة إلا نتاج حروب صغيرة كان منبعها الأفكار التي كان لها عدد من الأتباع، وينبغي أن نزداد وعيا من كل العقد والرواسب، فهذا أرقى أشكال التحرر الفكري.
في كلماتنا قوة، وفي الكلمات التي نتلقاها أيضا قوة، ووعي الفكر المتسلل إلى عقولنا وبيوتنا وفضائنا هو المفصل الكبير الذي نتطلع له اليوم: بماذا نفكر؟ وماذا نسمع؟ هذا هو السؤال وعلى طريقة تحدث لأراك، قل لي من هو شيخ عقلك لأقول لك من أنت.