أخذ التنوير قيمته الحقيقية من كونه كان نقضاً للأفكار الوصائية كما ذكرنا في المقالين السابقين، والتي كانت سائدة في عصور مضت في الجانب الغربي أيام الصراع بين الفلسفة والعلم مع الكنيسة وانتصار التنوير وفلاسفته في المرحلة الأخيرة إلى درجة صباغة العالم الغربي الحديث بمجمله بصبغة التنوير حتى أصبحت كل التنظيمات الحديثة ناتجة عن هذا التنوير الذي كانت أهم شعارات مرحلته التي ولد فيها: الحرية والعدالة والمساواة، وهذه الشعارات الثلاثة هي تقريبا التي حددت مسار حقوق الإنسان التي اعترفت بها معظم دول العالم بما فيها دول العالم الثالث والعالم العربي.
في الجانب العربي كانت أفكار مفكري النهضة العربية منذ بداياتها، وليس انتهاء بالعصر الحديث قد أخذت في تفكيك بعض التراث التقليدي الذي كان مهيمنا على مجمل السياق العربي بلا استثناء، لكن فعل التنوير في الجانب العربي لم يأخذ قوته كما لدى الجانب الغربي رغم أن شكل التنظيمات العربية الحديثة هي تنظيمات أخذت عن القانون الدولي أشكالها، لكن لم تتشبع الروح العربية من هذا التنوير بحيث يصبح فكرها الذي تسير عليه إنما هو نوع من الاستيراد الشكلي أو حداثة ناقصة وعرجاء لم تستطع أن تحقق للمواطن العربي أي تقدم يذكر، هذا إذا لم تستخدم على غير ما جلبت له، ولذلك فإننا نرى في الجانب العربي أننا ما زلنا نناقش نفس القضايا التي ناقشها مفكرو النهضة سابقاً، أي أنه لم يحدث أي تطور على المستوى الفكري في الأجيال اللاحقة التي تلت مرحلة النهضة، بل البعض يعتبر أن مرحلة النهضة كانت أفضل بكثير من المرحلة الحالية حيث تراجع العالم العربي بمجمله عن المنجزات التي تحققت من قبل، بل وفشل العديد من التجارب الفكرية والسياسية إبان وجودها على أرض الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي، وظهور بعض التيارات الفكرية التي أعادت الوضع العربي إلى مرحلة البدايات من جديد رغم التقدم النسبي الذي كان، على اعتبار أنه لم يكن هناك أي تراكم فكري أو ثقافي يجعل فكر النهضة مثمراً يلي مرحلة النهضة، ولذلك فسؤال فشل النهضة العربية كان لا بد أن يكون أحد أهم الأسئلة الفكرية الحالية والتي لا بد أن يتصدى لها مفكرو العصر الحديث. وهل كانت الأسئلة المطروحة في عصر النهضة العربي أسئلة حقيقية تنهض بالعالم العربي أم إنها أسئلة هامشية لم تدفع الروح العربية إلى الأمام، أم إن الظروف السياسية هي التي قوضت كل مشروع النهضة من أساسه لتبني على أنقاضه كل هذا التطاحن الفكري والعربي المشهود والتجارب الفاشلة من أفكار اليمين واليسار على حد سواء؟ وهل كانت أسئلة النهضة هي ذات أسئلة التنوير في الجانب الغربي أم إن الظرف التاريخي يختلف من سياق إلى سياق آخر؟ أسئلة من هذا القبيل لا يمكن الإجابة عليها بشكل سريع بل تحتاج إلى تفكر وبحث فكري في طيات الأفكار المبثوثة هنا وهناك في مدونات المفكرين وكتبهم ومقارنتها بما كان سائدا في الجانب الغربي وما مدى توافق هذا مع ذاك.
طبعا لا يمكن لأحد الادعاء أن لديه مفاتيح الإجابات هنا، لكن برأيي أن أهم ما كانت عليه أفكار هؤلاء وهؤلاء هي إعادة قراءة الذات الثقافية، هذه القراءة التي استوجبت السؤال عن النهوض والتخلف، وهي ذات الأسئلة التي ما زلنا نسألها منذ قرنين ولم نستطع أن نخطو خطوات إلى الأمام أو أن نضيف عليها من جديد، لا على مستوى الفكر الحديث ولا على مستوى الفكر التقليدي ذي الإجابات الجاهزة. إعادة قراءة الذات هي إعادة لقراءة كل الموروث الثقافي ومدى توافقه مع المستجدات الفكرية والثقافية والتقنية المعاصرة باعتباره عصراً غربياً بامتياز في كل مناحي الحياة.
لقد كانت الأفكار التنويرية في الجانب الغربي نقضاً للأفكار الوصائية بشكل مباشر، في حين كانت في الجانب العربي إعادة القراءة الفكرية للتراث، وهذا نقض عملي للأفكار الوصائية، أي أن فكر التنوير في العالم العربي يقترب من أيام النهضة الأوروبية وليس من أيام التنوير أو الحداثة، بمعنى أن فكر التنوير كان تطورا تاريخيا وفكرياً عن أيام النهضة وهذا ما لم يحصل في الجانب الغربي حتى الآن.
كان نقض الفكر الوصائي نقضا للسلطة الفكرية التي تهيمن على مجمل السياق الأوروبي والسلطة الفكرية هي سلطة عبودية في شكل من أشكالها، لذلك كان فلاسفة التنوير يدعون دائما إلى هدم تلك السلطة وبناء فكر حر خلاق ينحاز للجانب الإنساني حتى توج ذلك أخيرا في مراحل لاحقة بتحرير الإنسان حتى من العبودية المباشرة كما في حركات تحرير العبيد في أمريكا والتي شملت العالم كله فيما بعد حتى انتهت عبودية الإنسان وأصبح قانوناً عاماً في حقوق الإنسان. الفكر الحر الذي كان يدعو إليه فلاسفة التنوير كان شاملا وعلى كل النواحي الإنسانية المباشرة وغير المباشرة: السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية وغيرها الكثير، لكن هذه الروح الحرة لم تكن منفلتة من عقالها، بل هي قائمة على أسس منضبطة، ولذلك فلا توجد حرية مطلقة كما يدعي أصحاب الفكر التقليدي بل إنها حرية تقف عند حدود حرية الآخر، كما تقف في إطار "القيم الكبرى" التي بنيت عليها المجتمعات الإنسانية. وأضع "القيم الكبرى" بين مزدوجين لكي أؤكد على مسألة أنها كبرى وليست تجزيئية كما يفعل البعض في تأطير الحرية الإنسانية في قوالب صغيرة جدا لا يراها إلا هو ويبني عليها كل عمليات الوصاية التي يريدها ويحاول جر مجتمعه بأكمله إلى وثوقية ما يطرح من خلال تجزيء مفهوم الحرية إلى جزيئات صغيرة كنوع من التخويف الكلي من كلمة متأصلة في الفكر البشري عمومه بلا استثناء وهي: "الحرية".
إذن.. فإن فكر التنوير كان ولا يزال يتمحور حول كلمة الحرية، وهو بدونها لا يصبح تنويرياً بقدر ما يتحول إلى فكر وصائي هو الآخر، وهو حين يحاول نقض الفكر الوصائي إنما يحاول إعادة الإنسان إلى طبيعته الفطرية الحرة قبل هيمنة أشكال الأفكار السلطوية عليه.