إن الماضي جوهرة بين أيدينا تحمل قيمة الزمن، فبريقها يحمل الضوء لمن أراد أن يستشرف المستقبل، لكن هذا الماضي يشتد بريقه لدى كثير ويخفت لدى كثير إلى أن يصل الأمر لدى بعض الجهلاء ومعدومى الرؤية المستقبلية إلى الانبهار بالبريق الزائف لبعض الحضارات التي لا تحمل في ثناياها إلا بقايا حضارات مستعارة.
وجدلية الحاضر بالماضي جدلية أزلية منذ الرومان إبان القرن الثاني الميلادي وحتى آخر مُنظري التطور الفكري والاجتماعي والنقدي الأميركيين أمثال ت. س. إليوت، الذي دعا في نظريته المعادل الموضوعي وشدد على التمسك بالتراث وتطويره عبر ثقافة الزمان والمكان، إلا أن المعاصرين منهم أمثال أوليفر روي أو توماس فريدمان أو ريدموند آرون وهم من أكبر المفكرين الأميركيين المعاصرين بل هم قد أصبحوا من مصدري الثقافة والفكر للعالم اليوم قد دأبوا واستحسنوا وأسسوا لفكرة هدم الماضي وإزاحة التراث والعادات والتقاليد من رؤوس شبابنا المعاصر إن جاز التعبير. فيقول أوليفر روي في محاضرة له عن تفسير الربيع العربي في معهد BROOKINGS بواشنطن يوم الثلاثاء 13 /12 /2012 عن الشباب العربي اليوم في ندوة عما أسموه بـ"تفسير الربيع العربي":
"إن الصورة الأبوية التقليدية عن الزعيم لم تعد تعمل بعد اليوم. فهم غير منجذبين للقادة الكاريزميين. إنه جيل السلام، ليس جيل القادة العظام. لذا، فإن نتيجة هذا الأمر ـ وهذا هو التغيير الثاني ـ هو أن هناك انهياراَ للثقافة العربية التقليدية ـ حسناً كلمة تقليدي كلمة كبيرة – لكنه انهيار للثقافة العربية التقليدية المبنية على الشخصية الكاريزمية أو المبنية على الابن، كما تعلمون. فعادة ما يكون الأبناء أقل كاريزمية من آبائهم. لكن مع ذلك، كما تعلمون، كانت الفكرة أن هناك قائداً شرعياً كبيراً وأنه يفترض بالناس أن يكونوا موحدين، وأن أي نوع من أنواع الأيديولوجية، القومية، الإسلاموية، العروبة، مسألة لا تهم, وأن الديموقراطية هي ديموقراطية خارجية – أكثر من خارجية – هي مؤامرة لتدمير وحدة الشعب العربي.. هم لا يهتمون باتباع النماذج غير التقليدية، كما تعلمون، هم لا يؤمنون بالمؤامرة الغربية لتقويض القومية العربية، هم لا يكترثون للبروباجندا، هم لا يلتصقون بالأيديولوجيات التقليدية، سواء أكانت العربية، أم القومية، أم الإسلامية. إنهم أكثر تفرداً بكثير. وبالتالي، إنهم يدعون للكرامة وليس للشرف. أنتم تعلمون، الشرف إشارة جماعية مشتركة، لكن الكرامة حق فردي... إنهم أفضل من آبائهم". انتهى
ولذا فقد ظهرت نزعات شبابية بالتجرؤ على العلامات والرموز و"الكاريزما" من القادة والمفكرين والآباء في نهاية المطاف إن جاز التعبير - كما ذكر روي واستحسنه - نتيجة للحقن تحت الجلد لهذه الأفكار - من قِبَل مفكرين معاصرين - لهدم كل ما هو موروث، ربما لأن روي وإدموند وفريدمان وغيرهم لم يتذوقوا طعم الماضي وعذوبة الموروث والتاريخ الضارب في عمق الزمن نظرا لحداثة تاريخهم الذي لا يتجاوز مئات السنين حسب قياس زمن الحضارات، ومن هنا كانت دعواتهم واستحسانهم لهدم الماضي والتقاليد تنبع من فرط اللذة بالحاضر الذي لا ماضي له قياسا بعمر الحضارات عبر دهاليز الزمن، وهنا تكمن الخطورة على شبابنا حماهم الله ورعاهم من هذا الطوفان الفكري وإن كانت قد بدأت أعراضه تطفو على السطح كأعراض أنفلونزا الخنازير والعياذ بالله.
كما أن الدراما الأميركية في القرن العشرين على أيدي كتابها أمثال آرثر ميلر وتنيسى وليامز، ويوجين أونيل، وأدوارد ألبي، ووليام سارويان وغيرهم، قد تناولت مسألة الماضي وعلاقته بالحاضر في أعمالهم أيضاً، فجعلوا الماضي يطارد الحاضر ويعذبه، فلا فكاك من الماضي لأنه من وجهة نظرهم كريه وعذب للشخصية، وهنا يكمن الخلاف بين الأيديولوجيتين العربية والغربية، بالرغم من الزحف المخيف للثانية على عالمنا وتقاليدنا.
كانت لجدتي حكاية ولحكايات جداتنا دورها في صياغة الشخصية منذ الطفولة فتقول:
"كان هناك سلطان مستبد أراد أن يُحكم قبضته على جميع الأصقاع، فطلب من كل شاب أن يقتل والده، فامتثل جميع الشباب إلا واحدا احتفظ بوالده في عقر داره وخبأه عن الأعين، وبعد مرور خمس سنوات طلب السلطان من الشباب أن يذهبوا إلى جبل للحصاد، فلم يجدوا ما يحصدون، وحين عاد الشاب لوالده وسأله قال له الولد: لم نجد ما نحصده، فقال له الوالد: اذهب وافتعل أنك تحصد شيئا ثم افركه بكفيك وكأنك تأكله، وحين يسألك السلطان فقل له: نحن نأكل مما نزرع، فعل الشاب ذلك، وسأله السلطان حينما أبصره فأجاب الشاب كما لقنه والده. تيقن السلطان أن هذا الكلام لا يصدر إلا من رجل كبير، فبحث في الأمر وعلم أن والده لا يزال حيا فأمر بإحضاره، واتفق الوالد مع ولده بأن يقول والدي ذهب لحفل زفاف ولم يعد إلا منذ وقت قريب, ومثل الابن والوالد في اليوم الثاني أمام السلطان، وأجاب الشاب كما اتفق مع والده فسأل السلطان الوالد عن كنه هذا الزواج وسبب تأخره، فأجابه: زواج بنت أم قويق على الغراب، أما سبب التأخير فهو محاولة حل مشكلة الزواج.. فسأله الحاكم عن المشكلة، فقال له: إن أم قويق طلبت مهرا لابنتها عبارة عن سبعين بلدا خرابا، فسأله السلطان وهل وجدتم هذه البلاد؟ فأجاب الوالد: نعم.
فسأله السلطان: أين هذه البلاد؟ أجابه الوالد: إن البلاد التي ينعدم فيها وجود الكبار تصبح بلاداً خراباً بلا شك، ففهم السلطان خطورة الأمر وعفا عن الشاب ووالده".
هذا هو تاريخنا وفكرنا وفلسفة أجدادنا، حيث بنيت على احترام الكبير واحترام كل ما هو موروث، وكل ما هو قيمة، وكل ما هو علامة على طريق الزمن للاسترشاد به. وقد تعمدت وضع أيديولوجيتين مختلفتين على صفحة واحدة أمام القارئ الكريم لكي يحكم هو بنفسه.