بعد مُضيّ أكثر من عام على نجاح عدد من الثورات العربية؛ يجب أن نطرح تساؤلات عدة عن المستقبل الذي ينتظر تلك الدول، وعن مصير غيرها أيضا في مسار الحراك المتفجر في المنطقة. ما النتيجة التي سنصل إليها بعد كل ما قدم أولئك من تضحيات وما جرته من خسائر اقتصادية أو سياسية ربما؟ هل مجرد نجاح الثورة وإزالة الأنظمة الفاسدة هو الهدف فقط؟ أم أن الهدف هو الوصول إلى التقدم والرخاء الاقتصادي والسياسي؟
قبل الإجابة على التساؤل، ربما أن عرض بعض التجارب السابقة وإعادة قراءة التاريخ المعاصر يفيدنا كثيرا للإجابة.
من أهم الأحداث التي وقعت في القرن الماضي هي الحرب العالمية الثانية، التي فجرتها ألمانيا النازية آنذاك. وكان من أهم أسباب الحرب هو الظلم الذي وقع على ألمانيا والتعويضات الضخمة التي كان عليها دفعها من خلال الشروط التي فرضتها اتفاقية فرساي (Treaty of Versailles) عام 1919م بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، مما جعل الألمان يشعرون بالامتعاض والإهانة، الأمر الذي دعا النازيين إلى نقضها والثورة عليها، ومن ثم الانتقال إلى الحرب!
وعند قراءة كتاب كفاحي لهتلر مثلا؛ يتضح للقارئ حجم الثورية والاندفاع الهائل نحو الثورة لأجل إخراج ألمانيا من ورطتها الاقتصادية والسياسية، وكيفية اتهامه وتخوينه للأحزاب الحاكمة آنذاك، وأنهم السبب في إهانة ألمانيا! وقد كان يحب تسمية حزبه بالحزب الثوري الاشتراكي أحيانا. كما اتخذ النازيون من العمال والاشتراكية والقومية أفضل طريق نحو تنفيذ ونشر أفكارهم، حيث تدور على هذه الأفكار أكثر الأمور حساسية وهي المال والحقوق والعرق! وهي أفكار ثورية جذابة وتستجلب الكثير من الأتباع بسهولة خصوصا مع اللغة الثورية من خطيب مفوَّه كهتلر! فهم يستثيرون المظلومية التي كان يشعر بها الألمان، ويدغدغون المشاعر بعظمة العرق الآري (الألماني) وما إلى ذلك.
هذه الأفكار التي كان يطرحها النازيون وثورتهم ضد الرأسمالية والفساد وغيرها كانت تسحر الشباب الألمان آنذاك، وأخذوا يستعْدُون كل من خالفهم ويتهمونه بالخيانة أو اللاوطنية بسهولة! وهكذا ساعدتهم هذه الأفكار في سحق كل المخالفين، وإسكات جميع الأصوات المتعقّلة الأخرى -الخونة في نظر النازيين!- التي ربما ساهمت في إيقاف الكارثة التي ستلحق بألمانيا فيما بعد فيما لو قُدر أن سُمِع لها!
الذي وقع هو أن ألمانيا نجحت نجاحا باهرا في تطوير التقنيات العسكرية بشكل هائل، ربما بشكل لا مثيل له آنذاك، حيث هم أول من استخدم الغواصات والطائرات النفاثة والصورايخ العابرة وغيرها. إلا أن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل أقحم النازيون ألمانيا في حرب ضد أغلب العالم آنذاك بالاستناد على الأيديولوجيا الساحرة!
بودي لو استشعرنا شعور الألمان في تلك الفترة بعد نجاح ثورة النازيين (مع التحفظ على وصف النازية هل هي ثورية أو رجعية أو غير ذلك)، ثم بعد ذلك؛ النجاحات الصناعية والعلمية التي حققوها، وتلاها إلغاء الاتفاقيات التي كانوا يقولون إنها مذلة، ثم النجاحات العسكرية الهائلة التي التهم فيها النازيون معظم أوروبا، وكادوا ينتصرون على الإمبراطورية البريطانية لولا الغرور والعنصرية!... هل كانت تلك التصرفات فعلا في صالح ألمانيا؟
الحقيقة أن الذي حصل بعد ذلك؛ أن ألمانيا خسرت كل ما أنفقته في تلك الحرب الهائلة! وخسرت الملايين من سكانها، ومات الملايين من سكان العالم، ودُمرت أغلب ألمانيا تقريبا جراء الحرب المدمرة، ثم قبل ذلك وبعده؛ لم تكسب أي شيء! وربما لو رجع بهم الحال إلى ما قبل الثورة والحرب لفضلوا مضاعفة التعويضات على ما حصل لهم!
ما أود الإشارة إليه هنا هو أنه في السياسة؛ ليس كل شيء مرغوب ممكن التطبيق، والسياسة هي فنّ الممكن وبأقل الخسائر.
كيف جاء النازيون؟ هل اغتصبوا السلطة؟ لا، بل جاؤوا عبر الانتخابات! وهي فعلا كانت معبرة عن رغبة الشعب التي أثرت فيها الأفكار الثورية والأيديولوجية التي ألغت العقل ورمت بالأعراف والمبادئ السياسية جانبا! ربما كانت بعض تلك الأفكار مبنية على مبدأ صحيح، إلا أن طريقة التفكير في العلاج كانت كارثية. ولذا؛ فإنه ليس كل فكرة صحيحة مسوّغا كافيا لاتخاذ قرارات صعبة وربما كارثية.
ماذا لو لم تدخل ألمانيا الحرب؟ لا شك لدي أن ألمانيا في بعض المراحل آنذاك لو قبلت بتسوية مع خصومها لقبلوا بها! ولحافظت ألمانيا على قوتها ومصالحها، إلا أنها الثورية والأيديولوجيا عندما لا تسمح لصاحبها حتى بمراجعة أفكاره المكارثية!
ليس بعيدا هذا التساؤل عن تصرف جمال عبدالناصر في الحرب التي قام بها بالاستناد إلى العواطف القومية والطموحات التي ما لبثت أن أصبحت دمارا كبيرا على مصر! ما زالت تعاني منه إلى وقتنا هذا جراء تلك الهزيمة الساحقة لمصر!
الأمر الذي يدعو لطرح هذا الموضوع هو؛ التخوّف الكبير لدى عدد من المثقفين والمتابعين من المستقبل الذي ينتظر المنطقة. فهل ستمر منطقتنا بنفس التجارب التي مرت بالعديد من الأمم قبلنا عندما انتقلوا من حكم الدكتاتوريات إلى الديموقراطيات كما حصل في أوروبا؟ أم أننا سنتجاوز تلك المرحلة بين المرحلتين إلى التقدم والرخاء مباشرة!
خصوصا مع النقص الكبير في الخبرة السياسية التراكمية لدى القوى الفاعلة في المنطقة سواء الأحزاب السياسية أو الحركات الدينية، حيث يوجد العديد من أوجه الشبه بين بعض تلك القوى والأحزاب الثورية التي قادت بلادها نحو الدمار بجامع التسليم الكامل للأيديولوجيا الحزبية أو الحركية الثورية دون حتى السماح بمراجعة مدى صدقية أو ملاءمة تلك الأفكار للواقع! هذه الأفكار الأيديولوجية الثورية التي تُغْلق باب العقل والتفكير هي بنظري أكبر خطر مستقبلي يواجه المنطقة خاصة مع وجود إرث هائل من المشاكل والأزمات المتراكمة في المنطقة التي تعقد الحل، وأرجو أن أكون مخطئاً!