فلنتفق على أن الفتوى انحرفت عن مسارها العلمي الفقهي الطبيعي بوصفها اجتهاداً بشرياً في فهم النص، لا يلزم من رأى وجاهة اجتهاد آخر، إلى سلاحٍ فعال في دعم الفكر الصحوي، ومحاربة خصومه، يصل أخطر مراحله حين يصبح حكماً قضائياً يصدر من محكمة رسمية، كما حدث في قضية مقتل المفكر/ "فرج فودة"، مطلع التسعينات، حين استدعي "محمد الغزالي" ـ الإمام الإخواني العريق، المعروف بدعمه للجماعات المسلحة خاصة في "الجزائر" ـ للإدلاء بشهادته، فصرَّح بأن القاتل مجرد "مفتئتٍ" على السلطة، أي متطفل عليها، وإلا فإن "فودة" يستحق القتل، ولكن الواجب أن تقوم الدولة بذلك!

هذه الفتوى "الغزالية" اتخذها الإرهاب الفكري في "مصر" ضوءاً أخضر لقتل من تدينهم بالردة، وفي مقدمتهم رجال السلطة الرسمية، الذين لم يقوموا بواجبهم! فقتلوا "رئيس مجلس الشعب"، وحاولوا قتل "وزير الداخلية"، و"نجيب محفوظ"! وأصبح كل من تسول له نفسه مخالفتهم مهدر الدم! فكان لابد أن تنشأ "نحن المنافقة" الأدهى والأمر، كما حدث مع المفكر المأسوف على رحيله/ "نصر حامد أبو زيد" ـ رحمه الله ـ فالذي رفع القضية "احتساباً" ليس من "نحن الصحوة"، ولا من "نحن المخالف العلني"، بل من "نحن الخوف والترقب والتربص"! إنه زميل له في القسم ذاته مثَّل دور "الظبي": "قد يسرعُ الظبيُ مذعوراً إلى الأسدٍ"!

ومرة أخرى: فإن "نحن الصحوة" تترك الأفكار، وتتجه بضراوة إلى "الشخص"، فلم تناظر "أبو زيد" فيما خالفها، بل حكمت بردته والتفريق بينه وبين زوجه "غيابياً"؛ إذ اضطر للهجرة إلى أوروبا، في موقف سيسجل التاريخ فيه ذكاءه وبعد نظره، فقد كان بإمكانه ـ كما صرح "لأحمد الزين" في "روافد" العربية ـ أن ينطق الشهادتين لدى القاضي، فيسقط عنه "حد الردة"؛ ولكن ذلك سيكون سابقة قضائية تَشْرَعُ و"تشرعن" محاكمة من يأتي بعده! وهو ماحدث ـ مثلاً ـ في قضية "التفريق بين الزوجين لعدم تكافؤ النسب"؛ قبل أن تسقطها المحكمة الكبرى، إذ صرَّح رئيس جمعية حقوق الإنسان السعودية، الدكتور/ "مفلح القحطاني" بأنها فتحت المجال لمئات القضايا المشابهة!

وها هو دم "الشخصنة" لم يبرد بعد، منذ فوَّرته فتوى معالي المستشار/ "عبدالمحسن العبيكان" في مسألة "رضاعة محو الأمية"، وفتوى المقرئ/ "عادل الكلباني" في جواز الغناء والموسيقى، فلم يهتم مخالفوهما بذكر الأدلة التي ترد على الأفكار، بل توجهوا مباشرة إلى المطالبة بالحجر عليهما، ومنعهما من الفتوى!

وربما يكمن سر هذه الشراسة العريقة في أن أي خلاف، مهما كان صغيراً، إنما يكشف عن نسقٍ مترهِّلٍ ينوء بأوزاره، كـ"بعيرٍ" بات يخشى أية "قِشَّة" أن تقصم ظهره! وسنلعب دور "القشاش" في مقالة أخرى!