أكتب هذا الأسبوع من كيرونا، أقصى مدن شمال السويد، وآخرها مما يلي القطب الشمالي. وزيارة هذه المدينة تجربة فريدة في حد ذاتها، ولكن لها أهمية خاصة في ظل التطورات الاقتصادية الجذرية التي تنتظرها خلال الأشهر القادمة.
وكيرونا هي المركز الاقتصادي للمنطقة، إذ تعتبر عاصمةَ مناجم الحديد ليس في السويد فحسب، بل في أوروبا بأسرها. وإذا تم تنفيذ القرارات التي أعلن عنها هذا الأسبوع للتوسع في استخراج الحديد الخام منها فإنها قد تصبح عاصمة مناجم الحديد في العالم كله، وتزيد بذلك من أهمية السويد وثرائها. ولكن أهل المدينة، والسكان الأصليين في المنطقة، قد يدفعون ثمنا غاليا لهذا التطور.
وتقع مدينة كيرونا شمال الدائرة القطبية الشمالية، نحو 950 كيلومترا شمال غرب ستوكهولم. والطريقة العملية للوصول إليها من العاصمة ستوكهولم هي عن طريق الطائرة (ساعة ونصف)، إذ تستغرق رحلة القطار نحو (15) ساعة للوصول إليها. ومن الناحية الثقافية، تُعتبر كيرونا مركزا ثقافيا مهما لشعب الـ (سامي)، وهم السكان الأصليون للمنطقة القطبية الشمالية في الدول الإسكندنافية وروسيا، وقد تقلصت أعدادهم وضعُف تواجدهم الثقافي خلال القرون الماضية، تحت وطأة الحياة الحديثة واستيطان الأوروبيين في مناطقهم.
وتقع كيرونا في بلاد "شمس نصف الليل"، لأن الشمس لا تغرب فيها على الإطلاق هذه الأيام، وتظل الشمس مشرقة 24 ساعة يوميا! وهو أمر من الصعب تصوره إلى أن تأتي إلى هذه البلاد، وهي تجربة مثيرة، ولكنها قد تصبح بعد حين مرهفة لبعض الزوار المُحدَثين، حين يلتبس عليهم الليل والنهار، وأوقات النوم والصحو، والصلاة والعبادة. ولربما اندفع الزائر إلى السهر المستمر، لأن الشمس لا تغرب.
وتجتذب المدينة السياح من جميع أنحاء العالم في الصيف، فيأتون إليها ليعيشوا هذه التجربة، ويحاول أغلبهم الاطلاع على النزر القليل الذي تبقى من حضارة السكان الأصليين.
وتستمر هذه الظاهرة حتى منتصف شهر يوليو، فحينها تبدأ الشمس في الغروب، لبضع دقائق في البداية، حوالي منتصف الليل، ثم يزداد هذا "الليل" طولا، إلى أن تنعكس الآية ويغمر الظلام كل شيء، 24 ساعة يوميا، في فصل الشتاء، ولا تشرق الشمس أبدا، لأسابيع.
وتتميز مدينة كيرونا اليوم بالهدوء والبساطة وجمال الطبيعة. يعيش فيها نحو (18) ألف نسمة، ليس كلهم من شعب الـ (سامي). وتشارف المدينة على تحول تاريخي قد يشتت هذا الهدوء ولا يمكن التنبؤ بآثاره على مستقبل حياة هذا الشعب وثقافته. فلمدينة كيرونا سر دفين، فهي تقع فوق أكبر مخزون للحديد الخام في العالم. وتنتج اليوم نحو 90% من خام الحديد المستخرج في أوروبا.
وعلى مدى أكثر من مئة عام، ظلت كيرونا مركزا مهما لاستخراج الحديد الخام، ولكن أهميتها قد شارفت على أن تتعزّز أضعافا، فمع ارتفاع أسعار الحديد الخام أربعة أضعاف خلال السنوات القليلة الماضية، اشتد تنافس شركات المناجم عليها أكثر من أي وقت مضى، بعد أن تبيّن كم من خام الحديد مخزون تحتها.
ولكي تستطيع هذه الشركات استخراج الحديد الخام من باطن الأرض تحت مركز مدينة كيرونا، تقرر نقل مركز المدينة، بقضه وقضيضه، مسافة ثلاثة كيلومترات شرق موقعه الحالي. وستبدأ عملية النقل خلال أشهر قليلة، وستتطلب هدم مئات المباني ونقل ساكنيها خارج الموقع، خشية من تصدع هذه المباني أو انهيارها، فيما لو تم حفر أنفاق تحت الأرض لاستخراج مادة الحديد من تحتها. أما المباني ذات الأهمية التاريخية أو المعمارية، فسيتم تفكيكها طوبة طوبة ونقلها إلى الموقع الجديد، وإعادة تركيبها من جديد، ويتوقع أن يبدأ نقل هذه المباني مع بداية عام 2013م.
وبطبيعة الحال فإن شركة مناجم الحديد السويدية الحكومية العملاقة هي أكثر الجهات حماسة لهذا التطور، وعلى سبيل المثال قال رئيس الشركة هذا الأسبوع، حسبما نقلت الصحف: "هذا هو أكبر توسع في عمل المناجم منذ القرن التاسع عشر، عندما اكتشفنا كم هي غنية هذه المناطق بالمعادن." وتتوقع هذه الشركة، وهي التي كانت القوة الفاعلة وراء إنشاء مدينة كيرونا في عام 1900، أن تنفق نحو (13) مليار كورونا سويدي لتنفيذ هذا المخطط على مدى السنوات العشرين القادمة.
وهي شهادة لقوة ونفوذ شركات المناجم، كيف لا يبدو لحكومة المدينة دور يُذكر في هذه القرارات المصيرية؟ وتبدو عمدة المدينة وقد قبلت دون جدال قرارات شركات المعادن، ولم تعترض عليها، واكتفت بالقول هذا الأسبوع، بأسلوب دبلوماسي، إن ثمة بعض القلق بشأن التغيرات التي قد تحدث جراء نقل مركز المدينة إلى موقعه الجديد، سواء فيما يتعلق بالشكل المعماري والتخطيطي للمدينة أو أسلوب حياة سكانها.
ومما يثير قلق بعض سكان المدينة أكثر هو أن نقلها إلى مكان جديد قد يكون مؤقتا، وستضطر بعد حين إلى الانتقال إلى مكان آخر، لأن المكان الجديد للمدينة يقع هو الآخر فوق مخزن كبير من معدن الحديد، ولا يُستبعد أبدا أن يدفع ذلك شركات المناجم إلى المطالبة مستقبلا بنقل المدينة مرة أخرى، لكي تتمكن من استخراج ذلك المخزون من المادة الخام.
وعلى الرغم من هذا القلق، فإن الفوائد الاقتصادية المتوقعة كانت كافية لإقناع سكان كيرونا بالقبول على مضض بهذه المخططات. ومعروف أن هذه المدينة بسبب ثرواتها الطبيعية تتمتع بمعدل دخل للفرد يفوق دخل سكان العاصمة السويدية، خاصة حين تأخذ بعين الاعتبار القدرة الشرائية لذلك الدخل. ومع التوسع في أعمال المناجم على النحو الذي أشرتُ إليه، فإن دخل الفرد مرشح للزيادة، ودخل حكومة المدينة من الضرائب مرشح للارتفاع أيضا، مما سيجعلها أكثر قدرة على بناء المستشفيات والمدارس والملاعب والمراكز الثقافية.
ومع كل هذه الحماسة للتوسع المرتقب في مناجم الحديد الخام، فإن ثمة أمرا آخر لا يقل أهمية وهو تأثير ذلك كله على ثقافة شعب الـ "سامي"، فاستخراج المعادن واستغلال الموارد الطبيعية قد ارتبط في الماضي بالانتقاص من حقوق السكان الأصليين، وهو ما قد يتكرر في المشاريع الجديدة المتوقعة. وسأتناول هذا الموضوع في وقت لاحق.