المشكلة لا تكمن في وجود العادات، بل في المبالغة في تعظيمها وتبجيلها وتقديسها، ومن ثم تقديمها على ما هو أولى، أو منحها ما ليس لها من صفة دينية أو أخلاقية، وقد يلتبس الأمر، حتى يُظن أن مخالفة العادة مخالفة للدين، أو أن من تركها مقصر، رغم أن الشريعة نفسها فرّقت بين الثابت والمتغير، وجعلت العرف تابعًا للمقاصد، لا حاكمًا عليها، ونسينا أن كل قديم ليس بالضرورة أن يكون أصيلا، أو أن كل موروث لا بد أن يكون ملزمًا، أو أن ما كان حسنًا في بيئة أو في زمن، لا بد أن يستمر كذلك في كل وقت.
للأسف، في بعض الأعراف، تُضاف مظاهر موروثة يُظن أنها من تمام الشريعة، بينما هي اجتهادات أو أعراف محلية، قد يُثقل بها الناس، أو يُعاب تاركها، ومن أبرز صور المبالغات اليوم، ما نراه في بعض المناسبات من إلزام الناس بأنواع من الضيافة أو الهدايا أو الترتيبات الشكلية التي ترهق أصحابها، وتُشعر الآخرين بالتكلف أو التمييز، وتحولت، مع الأسف، إلى مصدر للتفاخر أو المفاضلة الاجتماعية؛ ومنها ما نراه في بعض المجالس، وليس دوائر العمل، من الحكم على تدين الإنسان، وعلى وطنيته، بناءً على مظهره أو لباسه أو لحيته أو لهجته، وهذا النوع من الأحكام فوق أنه يتجاوز إطار الذوق العام؛ هو يدخل في منطقة التحكم والتشكيك والاتهام، وكأن المظهر وحده يلخّص القيم والدين والولاء! مع أن الشريعة لم تجعل المظهر غاية، بل وسيلة مشروعة إذا التزمت بالاحتشام وعدم لفت الأنظار، والتزمت بالزي اللائق والمحترم، حسب العرف والعادة، في كل منطقة، وبعدت عن الملابس المبتذلة؛ ومن المبالغات الإصرار في المناسبات العامة والزيارات الخاصة على ترتيب الحضور، وكأن المقصود من الزيارة ليس الألفة، بل بروتوكول لا يُكسر؛ ومنها ما يشاهد في مناسبات العزاء، التي تتحول فيها لحظات المواساة إلى مناسبات ضيافة مُلزمة، يتم فيها تقديم مختلف أنواع الأطعمة والأشربة، وقد يقع الناس في حرج شديد إذا خالفوا عادات غيرهم، وكأن المعيار في التعامل هو العادة لا النية، والشكل لا المعنى.
أختم بأن العادة لا تُرفض لمجرد كونها عادة، كما أنها لا تُقبل لمجرد تداولها، بل لا بد أن تُوزن بميزان الشرع والمنطق، فإن وافقت المصلحة العامة رُحّب بها، وإن عارضتها رُشدت أو رُفضت، دون تهوين ولا تعظيم، بل بتوسط يليق بميزان الاعتدال الذي جاءت به الشريعة، ومن تمام العقل أن يُراجع الإنسان ما ورثه من غيره، وأن يميز بين ما يُبقي على المعنى، وما يُغرق في الشكل، فليس التجديد ترفًا، ولا التمسك بالتفاصيل فضيلة إذا فقدت حكمتها، بل الخير في التوازن، وميزانه الجامع المانع هو؛ لا إفراط في التقديس، ولا تفريط في الجذور، وحين تُضبط العادات بميزان الفقه والفكر، تصبح معينًا على المعنى لا حجابًا دونه، وستبقى المجتمعات في عافيتها إذا كانت تعرف كيف تفرق بين ما يُحترم، وما يُقدّس.