قبل سنوات، وفي عدة مقالات طرحنا فكرة أعمدة الاقتصاد السعودي السبعة، مستوحاة من عنوان كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، لتكون إطارًا تحليليًا لاستيعاب ركائز التنمية الاقتصادية التي يمكن أن تعزز مكانة المملكة عالميًا. ومنذ انطلاق رؤية المملكة 2030، شهدنا تفعيلًا عمليًا واستثنائيًا لهذه الأعمدة، عبر جهود جبارة تخطت توقعاتنا وتطلعاتنا، مما جعل المملكة اليوم نموذجًا لورشة عمل ضخمة ومنظمة، يعترف بها الجميع، محليًا ودوليًا، كمنصة للأداء الاقتصادي المؤثر على الساحة العالمية.

الأرقام واضحة، والإنجازات ماثلة على أرض الواقع، لقد تم تحقيق نجاحات نوعية في قطاعات الطاقة، السياحة، الصناعة، التكنولوجيا، الاستثمار، والثقافة، إلا أن هناك ضلعًا سابعًا لم يُفعل بعد بالزخم ذاته، رغم الإمكانات الهائلة التي تجعل المملكة المرشّح الأقوى لتولي هذا الدور عالميًا. هذا الضلع هو المصرفية الإسلامية وصناعة الأغذية الحلال.

المملكة العربية السعودية، بفضل مكانتها كقائدة للعالم الإسلامي ووجود الحرمين الشريفين على أرضها، وتمتلك مقومات معنوية وإمكانات اقتصادية وعملية ضخمة تجعلها مؤهلة لتصبح العاصمة العالمية للمصرفية الإسلامية. وتشير التقارير إلى أن أصول الصناعة المالية الإسلامية بلغت 4.5 تريليونات دولار أمريكي في عام 2023، ومعدل نمو سنوي نحو 11 % وهو معدل نمو متسارع يعكس الطلب المتزايد على الخدمات المالية المتوافقة مع الشريعة.


ومع ذلك، يمكن تحقيق المزيد إذا تم إنشاء مركز مالي عالمي في الرياض أو المدينة المنورة. يمكن لهذا المركز أن يكون بمثابة (HUB) يجمع مئات البنوك الإسلامية وفروعها العالمية، مع إنشاء بورصة إسلامية للصكوك والخدمات التمويلية، وهو ما سيؤسس لبنية تحتية مالية قوية تدعم نمو التمويل الإسلامي عالميًا.

مثل هذا المشروع لن يقتصر على استقطاب المؤسسات المالية، بل سيسهم في وضع معايير عالمية للمصرفية الإسلامية، وتعزيز مكانة المملكة كمرجعية للابتكار في هذا المجال وفي ظل وجود توجه عالمي نحو التمويل المستدام والمسؤول، فإن المصرفية الإسلامية تقدم حلولًا تتماشى مع هذه التوجهات من خلال نظامها الذي يركز على الأخلاقيات والشفافية.

أما ركن صناعة الأغذية الحلال، فهو قطاع يحمل إمكانات اقتصادية هائلة، وتشير الدراسات إلى أن السوق العالمي للأغذية الحلال بلغ 2.3 تريليون دولار في عام 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 4.177 تريليونات دولار بحلول عام 2028، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 10.8 %.

المملكة التي تمثل القلب الروحي للعالم الإسلامي، يمكنها لعب دور قيادي في تنظيم هذه الصناعة العالمية من خلال إنشاء مركز عالمي للأغذية الحلال. وقد يكون هذا المركز في الرياض أو المدينة المنورة، حيث يجمع شركات ومنظمات الأغذية الحلال لتقديم منتجات تتماشى مع المعايير الإسلامية العالمية.

على الرغم من أن أماكن الإنتاج عادة ما ترتبط بعوامل جغرافية وزراعية، فإن وجود مركز تنظيمي واستراتيجي سيمنح المملكة قدرة على تعزيز هذه الصناعة وتنظيمها. يمكن لهذا المركز أن يكون نقطة التقاء للمستثمرين والمصنعين والمستهلكين، إضافة إلى دوره في تسهيل التجارة العالمية للأغذية الحلال عبر معايير واضحة وشهادات موثوقة.

الطموح القادم: رؤية سعودية شاملة

إن تطوير المصرفية الإسلامية وصناعة الأغذية الحلال ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو مسؤولية تتماشى مع دور المملكة كقائدة للعالم الإسلامي ويمكن لهذه القطاعات أن تكون ركيزة اقتصادية جديدة تضيف عمقًا إلى التنوع الاقتصادي الذي تسعى المملكة لتحقيقه.

بتفعيل الركن السابع من أعمدة الاقتصاد السعودي، ستعزز المملكة من قدرتها على التأثير في الأسواق العالمية، وتستثمر في قطاعات تحمل أبعادًا اقتصادية ومعنوية طويلة الأمد. الخطوة القادمة تكمن في وضع إستراتيجيات شاملة لتطوير هذه القطاعات، وإطلاق مبادرات تدعم الابتكار والاستثمار فيها.

ختامًا، المملكة العربية السعودية في موقع يؤهلها لتكون القائد العالمي في المصرفية الإسلامية وصناعة الأغذية الحلال، مستفيدة من موقعها الجغرافي، قوتها الاقتصادية، وتراثها الإسلامي العريق. والوقت حان لتفعيل هذا الركن المهم، وإكمال الصورة الاقتصادية المتكاملة لرؤية المملكة الطموحة.