ولكن في المقابل نجد أن البعض من البشر رغم أن الله كرمه وفضله على الحيوانات بالعقل، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ لا يستطيع الدفاع عن نفسه من المعتدين عليه أو المستهزئين به من البشر ولا إيقافهم عند حدودهم فيتمادون عليه ويستمرون على أذيته ومضايقته، ولن يتوقفوا أبدًا والمسكين يتحملهم رغمًا عن أنفه، ويصبح «ملطشة» لهم، فتتعب نفسيته وأعصابه، وكان الصحيح أن يكرم نفسه لأن الله كرمه، وأن يواجههم بحزم وعقلانية لا بالعنف كالحيوانات عديمة العقول، وأن يطلب منهم التوقف عن الاعتداء عليه والاستهزاء به وعدم تكرار ذلك معه، لأنه لا يحبه، وإذا لم يكفوا أذاهم عنه، وليس هناك مجال لاعتزالهم ومغادرة المكان لصون كرامته، فيحرق أعصابهم بالتجاهل، وإن استطاع اعتزال المكان الذي يتواجدون فيه فذلك هو الأحسن، وتلك هي أفضل الأسلحة التي يواجههم بها.
وقد وصف النبي، صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المعتدين والمستهزئين بالشر فقال: «إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ».
التقى النبي، صلى الله عليه وسلم، بوحشي قاتل حمزة، حين جاء مسلمًا، قال: أنت وحشي الذي قتلت حمزة؟ قال: نعم، قال له النبي، صلى الله عليه وسلم: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني.
و«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف...» كما جاء في الحديث الصحيح الشريف، والقوي هو الشديد، ولكن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». ويستطيع مواجهة الناس ومنعهم من الاعتداء عليه بالرد عليهم بكل ثقة وهدوء، ويكون كالجبل لا يهزه الريح، وكالنسر لا يكترث لمشاكسة العصافير له، وكذلك يستطيع بالهجر الجميل (التجاهل أو الاعتزال) أو باللجوء إلى الجهات المعنية لمنع المعتدين قسرًا وتطبيق العقوبات النظامية عليهم، فلا ضرر ولا ضرار. أما أن يصبح البشر كالحيوانات في الغابة يستخدمون على بعضهم البعض أسلحة الحيوانات عديمة العقل فيصبحون سواء.
تحكي القصة الرمزية، أن حية قررت أن تتوب عن لدغ الناس وأذيتهم، فذهبت إلى حكيم وقالت له: لا أريد أن أؤذي أحدًا بعد هذا اليوم، فبما تنصحني؟ فقال لها: اقضي عمرك في مكان بعيد ولا تحتكي بأحد، عملت الحية بالنصيحة وذهبت إلى مكان بعيد، لكن صبيةً صغارًا رأوها فاقتربوا منها بخوف فوجدوها ساكنة فرموها بالحجارة فلم ترد عليهم، فأصبحت لعبتهم كل يوم في الروحة والجية، الحية زعلت وتعبت من هذا الحال، وعادت إلى الحكيم فقالت له: كففت أذيتي فتجرأ عليّ الصبيان، فقال لها الحكيم: ليكن لك في كل يوم نفثة سم، ارفعي رأسك إلى فوق وبخي السم، يراه الجاهل فيعي، ويراه الأوباش فيرتدعون.
الشريعة الإسلامية نظمت علاقة الناس ببعضهم وجعلتها قائمة على البشاشة، والابتسامة في وجوههم، وإحسان الظن بهم، وذكر محاسنهم، وإظهار الشفقة والرفق عليهم، ومد يد الإحسان «إن الله يحب المحسنين»، والمعاونة لهم، والمؤازرة والمناصرة والوقوف إلى جوارهم في أحزانهم، والمشاركة في أفراحهم؛ فهذه كلها من المعاني التي جاءت بها الشريعة، قال الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: «وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ» وقال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه» أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدافع عنه.
وكذلك يُروى عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وابغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.
المقصود من الرواية النهي عن المبالغة والإفراط الشديد في الحب، وليس المراد أن يكون المرء منقبضًا حذرًا من أخيه سيئ الظن به، بل الأصل في المسلم سلامة الصدر وإحسان الظن بإخوانه المسلمين وإخلاص المحبة وصفاء الود لهم، لكن اندفاع العواطف حبًا وبغضًا إذا جاوز الحد فهو مذموم، ولا شك أن القصد والاعتدال في الأمور مما يوافق الشرع، ومن أسباب طمأنينة النفس وانشراح الصدر.