هكذا يقدم الكاتب الألماني «هيرمان هتسه» كتابه «فن الكسل»، مؤكدًا أنه سيّان إن كنتَ ترسم لوحاتٍ أو تصوغ قصائد، أو إن كنت تكتب الأدب أو تقرض الشعر ابتغاء المتعة الفنية وحدها، فلا بُدَّ من وجود فترات من الراحة التي لا غنى عنها لأيّ فنان..
عن الحب، عن فن السفر
في منظور هتسه أن من قلب فترات الحبسة «الإبداعية» تنشأ أوقات الخمول الاضطرارية، التي طالما قوبِلَت بالازدراء أو الشفقة من ذوي الروح «البانوسية»، من محدودي الأفق.
بل حتى الفنان نفسه دائمًا ما يُباغَت ويُخدع بأوقات الحبسة هاته، ويسقط فريسة ضيق الصدر وتعذيب الذات، ويستمرّ به الحال هكذا حتى يتعلّم كيف يُذعن لصوت قوانينه الفطرية الداخلية، وحتى تواسيه فكرة أن الوفرة تشلُّ الإبداع مثلما يشلّه الإرهاق.
ويعبر هتسه عن مفاهيمه هذه في الكتاب عبر محتويات شملت عناوين «عن متعة العناد، عن فن الكسل، عن الحب، عن فن السفر، قراءات قبل النوم، عن ضحايا الحب، عن روح الأطفال، عن حكمة العمر والسخرية والحماقة، عن السعادة، عن اللغة والشعر.. عن الكتب».
الدفاع عن الأفكار
يقول هتسه عن هذه المحتويات «في اعتقادي لا تُمثّل نصوص هذا الكتاب التي تتوسّل -عن نيّةٍ وقصد- بشكل المقالات الأدبية والشذرات الخفيفة إلا نزرًا يسيرًا من مُجمل أعمالي، هذا من ناحية، من ناحيةٍ ثانية ثمة رابط مشترك ينظم في خيطٍ واحد النصوص البسيطة المشوبة بنبرةٍ تهكمية ساخرة في أغلب الأوقات.. هذا الرابط أسمّيه محاربة التفاؤل المخادع الذي يسيطر على الرأي العام عندنا، أسمّيه محاربة التقاليع الأمريكية والأوروبية، التي ابتكرها الإنسان العصري، ووصل بها إلى الحدود القصوى من السفور، وأسمّيه الشعور الصبياني المؤذي المتمثِّل في شعور إنسان اليوم بالرضا التام عن نفسه، بينما هو غارق حتى أذنيهِ في الرعونة، والغطرسة، والافتقار إلى التواضع، والتحلّي بروح التشكّك فيما يراه حوله، علاوةً على افتقاره إلى التحلّي بروح المسؤولية.
إن قيمة أعمالي لا تساوي إلا قيمة المتعة التي أجنيها من وراء عملية الكتابة، إن ما يُحدِث أثرًا حقيقيًّا في روح الكاتب، ويبقى داخلها لا يكمُن فيما يَودُّ كتابته، ولا ما يفكر فيه، ولا ما يرسمه بقلمه، وإنما في اللمحة السريعة، في الفكرة، في السحر البسيط العابر، تمامًا كما هو الحال في موسيقى «موتسارت»، فليس بيت القصيد هو الحكاية المروية أو العبرة الأخلاقية، وإنما اللمحة الطيّارة واللحن العذب، الحيوية والرشاقة التي تتطوّر بها الثيمات الموسيقية، وتنتقل من حالٍ إلى حال. والحقيقة أنني أُفضِّلُ رجلًا يؤثر تكريس حياته لأكثر المبادئ والمُثل في الدنيا سذاجةً وبراءةً عن رجل يدّعى امتلاك القدرة على الحديث عن جميع الأفكار والمثل، لكنه يعجز عن تقديم أدنى قدرٍ من التضحية لأجل الدفاع عن أيّ من الأفكار التي يتشدّق بها.
استشعار برودة الآباركلما استُلِبَ النشاط الفكري الحرّ وحُشِرَ داخل ماكينة الفكر التقليدي الخالية من الروح، وكلما حاولت العلوم الحديثة والنظام التعليمي سرقة حريتنا وشخصيتنا الفردية المستقلة، وانتزاعنا من حالة الطفولة لأجل أن تقذف بنا في أتون إيقاع العصر اللاهث المحموم، باعتباره الحالة المثلى للإنسان العصري؛ انهار فن الكسل وتوارى جنبًا إلى جنب مع غيره من الفنون القديمة الأخرى التي هجرها البشر، وكأننا لم نكن سادة هذا الفن وأساتذته من قرونٍ طويلة، طالما كان فن الكسل في الحضارة الغربية في الأوقات كلها فنًا لا يمارسه إلا الهُواة المسالمون.
أغرب ما في الأمر أن في عصرنا الراهن، وفي الحين الذي تتجه فيه أبصار كثير من الغربيين بمزيدٍ من مشاعر الفضول والشوق إلى عالم الشرق لالتماس شيءٍ من مشاعر البهجة التي تفوح بها أجواء «شيراز» و«بغداد»، والتماس شيء من الحضارة الهندية وتقاليدها العريقة، واستلهام شيء من الجدِّية والعمق الذي يزخر به عالم البوذا؛ قلما نرى إنسانًا حاول القبض على شيء من هذا السحر واستشعار شيء من برودة الآبار الأندلسية التي نحسُ بها تتدفّق نحونا ونحن نحبه ويسمع به اسمع العدال الحميم، لغته الجذابة بكل ما تحمله من رقّة، يتحتم عليك أن تكون موهوبًا بالفطرة في تذوّق سائر الفنون الأخرى، لأنك من دون تدريب ولا اتباع تقاليد محترمة في طريقة شرب النبيذ، فلن يصل بكَ إلى شيء.
القراءة الطائشة غير المنظمة
السؤال الآن: كيف يلتمس الفنان خطواته بنفس مطمئنة وهمّة، بينما يمضي بين طريقين محفوفين بالخطر.. وقت التفكير في أوان نضوجه الخالي من الحماسة، ووقت التفكير والفراغ الباعث على الإحباط؟.
إن أنشطة التواصل الاجتماعي، وممارسة الرياضة، السفر، وغيرها هي ألوان من التسلية لا تُجدي نفعًا في مثل هذه الأوقات، لأنها تسلية لائقة بالأثرياء، ولا ترقى أبدًا لطموح الفنان، كما أن الفنون القريبة تخذل بعضها البعض في مثل هذه الأوقات العصيبة، فالشاعر الذي يعاني لإنهاء قصيدة لا يجد راحته ولا اتزانه النفسي عند صديقه الرسّام، وبالمثل لا يجد الرسّام عزاءه وسلوانه عند المؤلف الموسيقي وهكذا.
إن الفنان لا يقدر على الاستمتاع بالفن استمتاعًا عميقًا وكاملًا إلا في أوقات إبداعه الرائقة، أما في أوقات معاناته، فتبدو شتّي ألوان الفنون في عينيه إما مبتذلة باهتة الملامح، وإما ضاغطةً خانقة لروحِه، فبالنسبة إلى فنان مُبتلى بالإحباط والعجز يمكن لساعة من موسيقى «بيتهوفن» أن تقلب أحواله رأسًا على عقب، مثلما يمكنها أن تشفيه من سقمه، وهذه تحديدًا هي النقطة التي أفتقد فيها بشدّة فن من يُسلم نفسه تسليمًا أعمى إلى كاتبٍ أو مؤلفٍ أو حِكمة، مُذعنًا إلى رأي بلا تدبّر، مُحاكيًا مصير بطل القصص الخيالية، بدلًا من التماس الدعم والعون، وهو يتلمّس طريقه الخاصّ في الحياة، فلن يُجدي معه نفعًا قراءة كتاب أو مؤلف حتى يصير نفسه.
القراءة الطائشة غير المنظمة أشبه بالخروج للنزهة في ربوع الطبيعة بعينيْن معصوبتيْن، لا ينبغي لنا أن نقرأ لكي ننسى حياتنا اليومية، بل العكس؛ علينا أن نقرأ من أجل أن نملك زمام حياتنا بشكلٍ أكثر وعيًا ونضجًا، علينا ألا نُقبِل على قراءة الكتب مثل تلامذة خائفين مُقبلين على مُدرّسين مُمِلّين، أو مثل شخصٍ لا يعاقر الخمور يمسك بزجاجة خمر ويجرع منها، بل علينا الإقبال عليها بشجاعةٍ مثل متسلقي جبال الألب أو مثل مقاتلين مُقبلين على ترسانة أسلحة، لا كهاربين أو كارهين لعيش الحياة.
هيرمان هتسه (Hermann Hesse)
(1877 - 1962)
ولد في كالف بألمانيا.
كاتب سويسري من أصل ألماني.
بدأ عمله ساعاتيًا ثم بائع كتب في مكتبة.
اتخذ التأليف والكتابة منهجًا في حياته وعمله.
حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1946.
كان متمردًا بطبيعته٬ يميل إلى الخيال.
شاهد صعود النازية إلى الحكم باهتمام وقلق.
سعى للوقوف ضد قمع نظام هتلر للأدب والفن الذي يعارض الفكر النازي.
نهاية الثلاثينيات حظرت أعماله، وتوقفت الصحف الألمانية عن نشر مقالاته.
جوائز
1906 جائزة (Bauernfeld).
1928 جائزة (Mejstrik) لمؤسسة شيلر في فيينا.
1936 جائزة جوتفريد كيللر.
1946 جائزة غوته.
1946 جائزة نوبل للآداب.
1947 دكتوراة فخرية من جامعة برن.
من أهم أعماله
1899 «قصائد رومانسية» ديوان شعر.
1906 «تحت الدولاب» رواية.
1919 «دميان» رواية.
1922 «سدهارتا» رواية.
1943 «لعبة الكريات الزجاجية» آخر رواياته.