كان صديقنا هذا قد تفرد بجدة مميزة حوت حظًا وافرًا من الكرم والطبيب، وكنا قد اعتدنا أن نقصد بيته ذاك كلما سنحت لنا الفرصة، فقد كانت تلك الجدة تقدم طعامًا مميزا تُشد إليه الرحال.
وصلنا في الوقت المعتاد فرحبت بنا الجدة كالعادة أجمل ترحيب، فدخلنا وسلمنا وجلسنا ولما جهزت سفرتها العامرة قالت لنا بلسانه الحالي: هيا تفضلوا يا عيالي انطحوا فالكم.
في الطريق كنا قد عقدنا العزم على المقاومة كما قال لي أحد الرفاق لقد قررنا ألا نستسلم لتلك الرائحة التي اختص بها طعام الجدة ولن نقبل العزيمة، وقد لمست هذه المرة من بقية الأصدقاء جدية في الأمر حيث قالوا لا نريد أن تكلف عليها...
كل مرة كل مرة.. عيب ما يصلح هذا الكلام. أمام عزيمة الجدة واإلحاحها تحمست كثيرًا وتصديت لها ولعزيمتها يقول فقفزت أولا ورفضت العزيمة بكل لطف وأدب رغم إصرارها، ثم التفت لأنظر لباقي الرفاق منتظرًا منهم القول والموقف ذاته، لكنني فوجئت بهم قد قفزوا من خلفي والتفوا حول تلك السفرة.
جلست أنظر إليهم بحسرة وقهر وغيظ وهم يستمتعون ويتلذذون بذلك الطعام الذي مازالت رائحته في أنفي حتى اليوم وقد أدركت حينها أنهم قد اتفقوا على بيعي، وهنا قد لا يخفى عليكم مقدار ألم تلك الصفعة ولا قيمة مثل تلك السفرة في ذلك العهد.
الشاهد أنه كانت ومازالت المقالب في حياتنا تحتل مساحة كبيرة وقد ارتبط الدهاء فيها وبها عبر التاريخ بشخصيات معينة وفي عصرنا صار لها علمها وعلومها ليبقى للمقالب فنونها ورجالها.
لقد استمرت المقالب حتى صارت ركنا من أركان معظم شؤؤون الحياةأيضًا، وهكذا ظلت في حياتنا تظهر بنكهات مختلفة وأشكال متعددة واستمر الحال منا من يستطيبها فيهديها ويعديها ومنا من لا تروق له وتكون العواقب أحيانًا وخيمة.
لقد استمرت المقالب في حدتها وتأثيرها حتى وصل البعض منها إلى حد تهديد الحياة حيث يبلغ هنا الأمر منهاة (أوفر)..!
ولو تتبعنا السياق عبر التاريخ لوجدنا أن كثيرا من النهايات كانت تصنعها وتحددها ألاعيب صغيرة على هيئة مقالب، حتى المجتمعات التي كان يسود فيها الروتين والحياة المتقدمة الطاغية لم تكن تخلو من تلك المقالب النوعية.
لقد كانت ومازالت المقالب نوعًا من الدهاء الشخصي، ومن ذلك ما يذكر أنه عندما تقدّم السياسي والأديب لطفي السيد للانتخابات البرلمانية في مصر قبل الثورة ، شنّ غريمه في تلك الانتخابات حملة مضادة له، فقام ونشر عنه أنه أي الأستاذ لطفي السيد يؤمن بالديمقراطية ويدعو لها وهل تعلمون ما هي الديمقراطية يا سادة؟
إنها أي الديمقراطية تدعو إلى تعدُّد الأزواج للمرأة الواحدة. وفي عز الانتخابات وذروة الزحام والاحتقان جاء لطفي السيد ليخطب في جماهير دائرته الانتخابية فباغته أحد الحاضرين بسؤال:
«هل تؤمن فعلاً يا أستاذ بالديمقراطية؟»
فردَّ وبقوة وحماس: «نعم، أنا أومن بالديمقراطية بقوة، وهي الطريق الوحيد لحل مشكلاتنا»
عندها تدافع الناس نحوه وانهالت عليه الكراسي والشتائم ففر هاربا ورضي من تلك الحملة بذلك الهروب والسلامة فانسحب من الترشح ويا روح ما بعدك روح.
وبغض النظر عن المصداقية هنا من حيث كانت حقيقة أم ملفقة إلا أنها كانت السبب الحقيقي وراء خسارته الانتخابية كما قد نقل.